«يُؤذن في مالطا»

تابعنا على:   10:12 2023-03-24

د. يوسف الحسن

أمد/ منذ أيام جاءني صديق، على درجة عالية من الثقافة، وقال لي، وكأنه يغبطني وربما يستفزني: «لماذا تجازف في مواصلة الكتابة في الشأن العام؟ إنك وغيرك من الكتاب والمثقفين كمن «يُؤذن في مالطا».

وأضاف قائلاً: «لقد تغير العالم يا صديقي، وهُزم زمن الحوار والجدل أمام زمن الإنترنت، صار المثقف ونصف المثقف، وأميّ الثقافة على حد سواء، ينام ويصحو على شبكات التواصل، أخبار وأقوال وفواجع وأوهام وتضليل وشتائم، يقضي نهاره في حصد (اللايكات) والردود.

نعم يا صديقي، إن المثقف العربي هو جزء من الواقع العربي المأزوم، ربما بعضنا ما زال يحلم بمثالية المثقف ورومانسيته، وبدوره العضوي المؤثر في المجتمع، وربما التهى البعض بالحديث عن نفسه، ونسي الحديث للناس، وربما آخرون اختلت أولوياتهم وقايضوا الخبز بالكرامة أو بالحرية، أو انتهوا كتبة لمن يدفع ثمن الكلمة. وربما تشوّهت رؤية البعض، حينما سمحوا للواقع العربي والإنساني المريض أن يخترق هذه الرؤية، وهناك ألف «ربما» أخرى.

تسألني، يا صديقي، عن أسباب تذبذب مواقف المثقف من القضايا العامة المفصلية في حياة أمتنا وأقطارنا الوطنية، وأقول لك: إن حال المثقف العربي مثل حال المواطن العربي البسيط، يبحث عن مستقبل أفضل قد لا يأتي، لكنه غالباً ما يجامل الجماهير، بخطاب وردي، إلى درجة تخجل أحياناً أن تكمل قراءة الخطاب حتى نهايته. صار المثقف لا يجرؤ أن يقول للناس ما يفكر فيه بالضبط، ربما نجح في بعض الأحيان في صياغة خطاب ضبابي مفهوم من قبل صانع القرار، إلا أنه من الثابت أن جسر المثقف مع الناس مقطوع، رغم وجود مثقفين عاشوا وماتوا على المبدأ، وأحدهم مثل جمال حمدان، صاحب نظرية «عبقرية المكان»، انتهى وحيداً في شقة متواضعة احترقت أثر انفجار «قارورة غاز» ومات فيها.

تسألني يا صديقي، عن موجة الفئات المثقفة الأولى في أزمنة مبكرة من الاستقلال، فقد كانت فئات مجتمعية محظوظة نسبياً وتتحرك بطلاقة وحرية في ظل سُلَط مرنة، أما الآن فمعظمها فئات من شرائح وسطى، ونشأت أمامها وعلى امتداد الوطن العربي، حواجز كثيرة، تباعد بينها وبين جماهير الناس، ومنها حواجز مرتبطة بضيق المجتمع الثقافي المدني، وانشغال المثقف بمشاغل حياتية قاسية، وبالتالي لم يعد طرفاً فاعلاً في تفاعلات مجتمعه، وصار خطابه إلى المجتمع خطاباً من بعيد، وغير مضمون الوصول إلى القاعدة.

حينما تغيب شمس الحرية، وتتحول الثقافة إلى سلعة تجارية، في زمن الاستهلاك الشره، يتلوّن خطاب المثقف بألوان ضبابية في أحسن الأحوال، وما دامت حرية الفكر والإبداع في محنة، فالمثقف يدخل دائرة الأزمة والتأزم أيضاً.

لكن هذا الوضع، يا صديقي، لا يمنع من الاعتراف بأن التاريخ الإنساني هو عملية صراع لا نهاية له، بين المثقف المبدع و«العضوي» من جهة، وبين الظروف المحيطة به من جهة أخرى، ومن هنا تبرز أهمية المثقف ودوره في صناعة النهضة الثقافية والمعرفية والفكرية والقيمية التي عرفتها الإنسانية، وهذا الدور لن يتأتى إلا في إطار نسيج فكري ومشروع ثقافي وطني وقومي، منظم ومتماسك ومتجدد، بعيداً عن «الشللية» والتسليع والانقسامات والتشظي في مؤسسات المجتمع المدني الثقافي (مثال: اتحادات وجمعيات الكتاب والمثقفين العرب)، مع ضرورة التأكيد على احترام مبدأ الاختلاف، الذي تسنده معرفة متميزة، ووعي مجتمعي حقيقي غير مغشوش، فضلاً عن ضرورة النزول إلى أرض الواقع المجتمعي، والتصالح مع المجتمع، ومع «الآخر» المثقف، من خلال الحوار والتفاعل والرؤية النقدية المسؤولة.

يسألني صديقي: هل للإعلام، ولوسائطه الجديدة، دور في هذه الصورة السلبية؟ ومن المسؤول عن «فتق القربة» التي ينفخ فيها المثقف؟ يهز صديقي رأسه، حيرة أو شكاً لا أدري، ويقول: هل المثقف منفصل عن الإعلام، أم أنه مادة الإعلام وأدواته؟

حسناً يا صديقي، المثقف هو المحرر والشاعر والرسّام والمخرج والموسيقي والروائي، والمُفتي أحياناً، والسياسي في أحيان أخرى، وبالتالي فهو يحمل في «خوابيه» الأزمة أيضاً، لكنه، في تقديري، الأكثر احتراقاً ومعاناة، لأنه «يعرف» أكثر من غيره، ويعلم بأن بعض أمراضنا مستعصية، ويدرك أن الشعوب راهنت على الثقافة والمثقفين، ودورهما في التغيير والتطوير والتقدم، إلا أنه يستدرك، ويتساءل، مع صديقنا، فيما كانت هناك إمكانية للنهوض في البنى الثقافية، ومن هو القادر والمسؤول الشرعي عن إعادة تشكيلها، ومدها بعوامل التمكين وتوفير حريات الإبداع والفكر والتشريع والحداثة الإنسانية، وإثراء ثلاثية العقل العربي، التي صاغها الدكتور محمد عابد الجابري، ومفكرون كثر، وهي الغنيمة (المصلحة الاقتصادية) والعقيدة (أيديولوجيا) والقبيلة (العامل الاجتماعي) وحقنها بعلوم الفلسفة والمنطق والتفكير المنهجي والبحث العلمي والإبداع والاكتشاف والإنتاج والاختراع... الخ؟

حسناً يا صديقي، لنعترف أن المسؤول الأول عن تشكيل هذه المنظومة الفكرية والثقافية والمعرفية والقيمية، هو النظم السياسة السائدة، ومؤسساتها الرسمية التربوية، والتعليمية، والثقافية، والإعلامية، والتنموية والتشريعية.

كتب المخرج السينمائي والكاتب الذكي الصديق ناصر الظاهري يشكو من غياب الإنسان (الجنتلمان) في «مدننا العصرية» وكأني به ينعى أيضاً غياب (المثقف المحترم) المتبحر في الآداب والفنون والشغوف بالفن والجمال والإبداع، ولا يتردد في طرح الأسئلة، وإذا نطق لا يتلعثم.

..........

المسألة يا صديقي معقدة ومركبة، ولا يفك ألغازها إلاّ من رحم ربك، لذا ربما سنواصل رفع «الأذان في مالطا» وننفخ في «قربة» مقطوعة، اتسع فتقها على الراتق؛ لأن الثقافة هي ما يبقى عندما يذهب كل شيء.

عن صحيفة الخليج

اخر الأخبار