"فساد ثورى"

تابعنا على:   14:36 2023-05-29

حلمي النمنم

أمد/ يتصور البعض منا أن الثورة هي فقط نزول آلاف المواطنين إلى الشارع أو حتى ملايين، والهتاف برحيل المسؤول الكبير أو إسقاط الحكومة والنظام بأكمله، وتصبح القضية هنا، في نظر بعض التنظيمات والمجموعات، هي كيف يمكن تحريك الشارع ودفع الناس، وإثارة وتعميق الغضب لديهم تجاه كل ما هو قائم سياسيًا واقتصاديًا، أو إغراؤهم بالنزول وربما تحريضهم على النزول بفبركة أخبار أو وقائع لم تحدث، كما حدث في إيران لإسقاط حكومة د. محمد مصدق، صيف سنة ١٩٥٣.

يمكن للحاكم أن يغادر موقعه دون كل هذا، استقال الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون في أغسطس ٧٤، بعد عامين فقط من انتخابه، دون مظاهرة واحدة، فيما بات يُعرف عالميًا باسم فضيحة «ووتر جيت»، ما حدث أن الرجل الثانى في جهاز (F.B.I)، السيد فلت، سرّب إلى الصحف واختص الصحفى «بوب ودورد» بما اعتبره انحرافًا وتجاوزًا ضد الدستور من الدائرة المحيطة بالرئيس، بل والرئيس نفسه، هناك فيلم أمريكى عن هذا الرجل ودوره، ناهيك عن أكثر من فيلم حول نيكسون شخصيًا، فضلًا عن عشرات المقالات والدراسات.

في بريطانيا العظمى أُزيح الملك إدوارد عن العرش بترتيب بين الحكومة والقصر والمخابرات، لأن الجهاز المخابراتى العتيد رصد إعجابًا من صاحب الجلالة بشخصية هتلر وأفكار النازية، وتمت تغطية الإزاحة بقصة العشق الشهيرة، كان الملك محبوبًا من الرأى العام، هكذا كانت التقارير تقول. عبر عقود ظل الجميع ينظرون إلى الرجل باعتباره رمز الحب في العصر الحديث.

يمكن للقضاء أن يفعل الشىء نفسه، يطيح بنخبة حاكمة، حدث ذلك في إيطاليا، فيما عُرف باسم حركة «الأيدى النظيفة»، حيث تعقب قاضٍ في ميلانو الارتباط بين رجال المافيا والسياسيين، وامتدت المتابعة عبر رجال القضاء في إيطاليا كلها، بما دفع سبعة وزراء إلى الاستقالة، وانتحر نفس العدد من الشخصيات العامة، يكفى أن «جوليو أندريوتى»، وزير الخارجية الأشهر ورئيس الوزراء لسبع مرات، أطيح به في هذه العملية، جرى ذلك دون مظاهرات أو حرائق.

قبل قرابة ثلاثين عامًا أجريت حوارًا مع الراحل الشيخ يوسف البدرى، نُشر في مجلة «المصور»، كان الرجل تفرغ تقريبًا لرفع دعاوى ضد الكُتاب والفنانين، في الحوار قال إنه لا يُضمر شرًا تجاه من يرفع الدعاوى ضدهم، لكنه يسعى إلى «قلب النظام بالقلم الرصاص»، أي بالأحكام القضائية، والمعروف أن قضاتنا الأجلاء يكتبون أحكامهم بالقلم الرصاص، كانت ذلك أخطر ما في الحوار، ورغم التعليقات العديدة عليه، حتى داخل مجلس الشعب، وقيام «أخبار اليوم» وقت أن كان رئيس تحريرها الجسور إبراهيم سعدة، دار النقاش حول القضايا والأسماء التي يستهدفها الشيخ يوسف، خاصةً نجيب محفوظ، ولم يكن غريبًا أن سعت جماعة حسن البنا إلى اختراق القضاء، فكانت مجموعة «قضاة من أجل مصر». لم يكن الأمر وقفًا على الجماعة، حدث أن أقامت نقابة الصحفيين ندوة كان ضيفها الرئيسى المستشار هشام البسطويسى، حين كان يستعد للسفر إلى الكويت (معارًا)، وتركزت الأسئلة الصحفية يومها، معظمها كانت من صحفيين كبار، إلى السيد المستشار حول ضرورة أن ينهج قضاة مصر نفس نهج قضاة إيطاليا، في حدود ما أعرفه لم يتجاوز الأمر حدود الأمنيات.

وهناك الطريقة الأشهر في التاريخ وهى إزاحة المسؤول بالاغتيال، في العصور الوسطى كان الأسهل دس السم له، تاريخنا الإسلامى عرف كثيرًا تلك الطريقة، في العصر الحديث لم يتوقف دس السم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى كشفت وثائق عن أن الزعيم السوفيتى «جوزيف ستالين» مات، على الأغلب، بحقنة مسمومة، تخلص منه الرفاق في المكتب السياسى للحزب الشيوعى لما فاجأهم أنهم شاخوا وحان موعد استبدالهم برفاق شبان. إزاحة ناعمة وهادئة، وخرجوا يذرفون الدمع عليه أمام جماهير الحزب حول العالم، وليس بعيدًا عنا الشكوك لدى البعض حول وفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وأنه قد يكون مات مسمومًا، ولأنه لم يتم تشريح الجثمان حين الوفاة سوف يبقى الشك قائمًا في ذهن البعض. وهناك شكوك في الجزائر الشقيقة حول وفاة الرئيس هوارى بومدين، الذي مرض وتوفى سريعًا، كان شابًا، الشكوك اتجهت نحو الرئيس العراقى صدام حسين. أما الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات فبات في حكم اليقين أنه تم تسميمه، القضية الآن من وصل إليه ودسّ السم؟

وعرف عصرنا أيضًا الاغتيال قتلًا بالرصاص أو طعنًا، في الولايات المتحدة جرى اغتيال أكثر من رئيس، آخر من تم اغتياله الرئيس جون كيندى، ولم يتم التوصل إلى خفايا هذه العملية حتى اليوم، الرئيس رونالد ريجان تعرض هو الآخر لمحاولة اغتيال، لكن أمكن إنقاذه وعلاجه.

نحن في مصر عايشنا اغتيال الرئيس أنور السادات سنة ٨١، حُوكم القاتل وتم إعدامه، وفى الجزائر اغتيل الرئيس محمد بوضياف سنة ١٩٩٢، جريمة ارتكبها أحد رجال الحراسة، كما تعرض الرئيس مبارك لمحاولة اغتيال وهو يغادر مطار أديس أبابا سنة ٩٧، عملية نفذتها مجموعة إرهابية تنتمى إلى الإسلام السياسى، وتبين أن نائب رئيس الجمهورية في السودان كان متورطًا بها. وكانت هناك عملية لاغتيال خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله، كان خلفها العقيد القذافى. عمليات ومحاولات الاغتيال عديدة في منطقتنا وفى العالم كله غربًا وشرقًا، في الأنظمة الديمقراطية وغيرها.

في كل هذه الحالات نُظر إلى من قام بالاغتيال، تنفيذًا أو مجرد محاولة، بل وحتى التخطيط لها، كما تكشّف في ألمانيا قبل شهور، على أنه إرهابى وعُومل كمجرم، لا أن الاغتيال عمل ثورى ولا أن منفذه ثائر.

باختصار، إزاحة حاكم وحكومة بحد ذاتها ليست عملًا ثوريًا، بل قد تكون نتاج مؤامرة وبداية فوضى وسقوط حقيقى للدولة.

الثورة أن يحدث تغيير إيجابى وتحول نحو النهوض والتقدم، سياسيًا وثقافيًا وفكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ولذا حين يكون كل هدف الثورة إزاحة نخبة أو زمرة، ثم التفرغ للانتقام والثأر من كلٍّ منهم أو التكسب (ماديًا أو معنويًا) من الكيد لهم، هنا لا نكون بإزاء ثورة، بل أمام صراعات ومكائد، وكذلك مطامع خاصة وصغيرة.

ثورة مايو ١٨٠٥ لم تتمثل في إخراج الوالى من مصر وفرض محمد على مكانه، الوالى كان سيغادر مصر دون ثورة، كان العادى أن يقضى الوالى عامين في موقعه، وإن طالت مدته تصبح ثلاث سنوات.

الثورة كانت مع مشروع محمد على لبناء دولة وطنية عصرية، وإنشاء مؤسسات حديثة. ثورة ١٩ تحققت مع الاستقلال بصدور تصريح ٢٨ فبراير، حتى لو كان استقلالًا منقوصًا، وصدور دستور سنة ١٩٢٣، وإجراء انتخابات نيابية في العام التالى مباشرةً.

تنازل الملك فاروق عن العرش ليس هو ثورة ١٩٥٢، كان الملك على وشك التنازل في ٤ فبراير ٤٢ لولا تدخل حسنين باشا في اللحظة الأخيرة.

في أسرة محمد على، خلع المؤسس نفسه في سنواته الأخيرة لصالح نجله إبراهيم باشا، وجرى اغتيال عباس (الأول) بإيعاز من عمته، كما خُلع عباس (الثانى) بقرار بريطانى، ومن قبله خُلع جده إسماعيل باشا بفرمان من السلطان العثمانى، وضغط من بريطانيا وفرنسا.

الثورة بدأت مع قانون الإصلاح الزراعى في سبتمبر ٥٢، ثم صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا سنة ٥٥ (من مفارقات التاريخ أنها الدولة نفسها التي كانت المصدر الرئيسى للسلاح في حرب ٤٨ إلى إسرائيل).

نزول الملايين أو عشرات الآلاف إلى الشوارع محفوف بالمخاطر، مهما كانت النوايا حسنة والأهداف نبيلة سوف يقع تخريب وقد تنشب الحرائق، وقد يسقط جرحى وربما قتلى، حريق القاهرة بدأ هكذا، مظاهرة سلمية للتعبير عن الغضب مما جرى من القوات البريطانية بحق رجال الشرطة في الإسماعيلية، مظاهرات ١٨ و١٩ يناير ٧٧ تحركت غضبًا من قرارات القيسونى، وبالتالى فإن النزول لا يكون إلا حين تُسد كافة الأبواب والطرق نحو الإصلاح، ولا يكون الهدف فقط إزاحة مسؤول، من أسفٍ أن كثيرين، خاصة داخل ما سُمى وقتها الائتلافات الثورية، أرادوا الوقوف في سنة ٢٠١١، عند خروج مبارك من المشهد، وقرروا أن كل الهدف والمأمول هو فتح المحاكمات له ولكل المسؤولين وتعليق المشانق، نُصبت مشاهد مشانق في الميدان، ليس مقبولًا أن يصدر حكم بأقل من الإعدام، وإذا كان بغير الإعدام اتُّهم القاضى والقضاء برمته، واشتعل الهتاف بإسقاط القضاء كما حدث مع الشرطة يوم ٢٨ يناير، هل نتذكر الهجوم الحاد والبذىء في بعض عباراته الذي تعرض له المستشار أحمد رفعت؟ كان المستشار أحمد يترأس الدائرة التي تولت محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك.

صرنا أمام مشهد انتقامى، ليس الغرض منه تحقيق العدل ولا إعمال صحيح القانون، بل التشفى، وكنا أمام عملية عبثية، وأكاد أجزم أمام رغبة حارقة في تدمير كل المؤسسات، مشاهد لا تخلو من انتهازية، مجموعة تتقدم ببلاغات ضد مسؤول بعينه أو شخص يُراد الانتقام منه، ثم تتقدم مجموعة للدفاع عنه ويزعم أفرادها أنهم بصدد «تخليص الموضوع» مقابل أرقام ومبالغ فلكية تُدفع، فيما يُشبه الإتاوة، لكنها «إتاوة ثورية»، الذين تقدموا بالبلاغات يزعمون الثورية، والذين يتعهدون بالتخليص يدّعون الأمر نفسه، في بعض الحالات كان المخلصون يتدخلون ويطلبون، قبل تقديم البلاغات، الدفع للحيلولة دون وصول الأمر إلى جهات التحقيق والفضح أمام الرأى العام.

عمليات فساد (ثورى) لا تقل في الرداءة عن فساد ما قبل ٢٠١١.

والحديث ممتد..

عن "المصري اليوم"

كلمات دلالية

اخر الأخبار