قراءة تأملية في قصيدة الشاعر التونسي القدير د.طاهر مشي .. "أنت..القمر"

تابعنا على:   11:36 2023-05-31

محمد المحسن

أمد/ من المعلوم أنَّ الحبَ كحالة إنسانية سامية،وما يكتنفه من لواعج العشق وصور الجمال،شكل على مدى العصور حافزاً قوياً لإثارة إبداع الشعراء،فضلاً عن مساهمة إبداعية المنجز الشعري بفاعليةٍ في تميز بعض الشعراء عن نظرائهم.ولا ريب أنَّ إبداعَ الشاعر يرتكز بشكلٍ أساس على الموهبة المقترنة بتنوع مصادر المعرفة التي يوظفها هذا الشاعر أو ذاك لرغبةٍ جامحة في التعبير عما يشعر به،أو قد يوجه بوصلتها نحو بلوغ المجد والإحساس بالتميز حيناً ما،مع العرض أنَّ الشعورَ الخفي الذي يؤرق الشاعر،ويرغب البوح به قصد إيصاله إلى المتلقي،يبقى على الدوام رهين ما يمتلكه من أدواتِ البناء الشعري التي بوسعها ترجمة ما بداخله من رؤى،وما يطرق في ذهنه من هواجس.

أسوق هذه المقدمة الموجزة بعد ما أطلعت على قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي (أنت..القمر)

ومن هنا،فإنَّ القراءةَ المتأنية لهذه القصيدة العذبة،تظهر بشكلٍ جلي أنَّ عاطفةَ الحب الصادق المقرونة بمسحة الجمال تشكل أبرز الينابيع التي أثارت قريحة الشاعر د-طاهر مشي الإبداعية،وحفزته على البوح شعراً،إلى جانب تجسيد عواطفه رسماً..

قصيدة تعكس ما يخالج نفس الشاعر من مشاعرٍ جياشة ومتدفقة بالوجد والحب،والتحرق عطشاً وشوقاً صوب الجمال.

وتدعيماً لما ذكر،أرى من المناسب اطلاعكم على هذه القصيدة التي يقول فيها :

جميلة تخذلين القمر

كانت تناجي

نورها وقت السحر

رقيقة تتخبطين في فؤادي

تنثرين لوعة الشوق انستر

احسد تلك الربوع

تلامس في مشيتك رق العبر

والزهور نجمات

تنحني منها قبلات الورقات

تشكر كل من فيها بصر

مشيتها نادبات الوجه ترسمها

زخارف ورسوم وعبر

وعينها افق بحاله

تلمح فيه الحياة مختصر

تتراقص حينا جفونها

ثم يشتد الهيام بالنظر

ساخرة اثوابها من لهفتي

فتراقص وتلامس الخصر

تغري حدة الوانها

لولا غروري عبراتي تنفجر

لو هاجمني الغريب لأجلها

كنت هدمت القوافي والصخر

يشتد عشقي في ساحة دارها

وهي تصد وجدها مل الضجر

جالت تزين تلك الحقول بخطواتها

شلال ماء انهمر

لو كنت من بين الملوك أهيمها

أبيت راكع عند بابها انتظر

ماذا عسي ان اقول لحسنها

غير انك انت القمر

لا أكتشف سرا إذا قلت إن الشاعر القدير-د-طاهر مشي يشتعل بالحب،يروضه،ويعزف عليه ويجعله يذوب كالشمعة ليبني مجدا خالد الكلمات،وصورة تتحوّل إلى مشاهد متسعة قوامها الحركة،الشوق،الحب والبهاء والجمال..

والمتوجب إدراكه أنَّ الجمالَ في تشكيل القصيدة الشعرية لدى الشاعر د--طاهر مشي مغمساً بالصدق والنقاء،ما يعني أنَّ هيامَ عشق -الطاهر-الذي فاض بوحاً وغدا ركيزة لإنجاز لوحته الفنية لا يخرج عن دائرة الغزل العذري والحسي،فالجمال لا ينبغي أنْ يفسرَ بوصفه قضية حسية ترتهن بالغرائز الجنسية.وتحضرني في هذا الإطار مقولة للشاعر إميل ناصيف ضمنها كتابه الموسوم (أروع ما قيل في الوجدانيات)،والتي يقول فيها : (الشعر الوجداني ينطلق من قلب الشاعر ليتوجه إلى قلبه موحداً بين الذات والموضوع محولاً الشاعر إلى النبع والمصب في آن واحد).ويمكن القول إنَّ السماتَ الجمالية المميزة لعدد من قصائد د-طاهر مشي التي اطلعت على الكثير منها،وفي المقدمة منها اللغة الشعرية والصورة الشعرية،تكشف لنا عن شاعر وجداني عميق الإحساس،متمكن من أدواته الشعرية،ضليع باللغة ومحب لجماليتها..

إنَّ القراءةَ المتأنية المتأملة لهذه القصيدة الرائعة (أنت..القمر) تقود إلى الاحساس بتميز الشاعر -الطاهر-فيما يكتبه وذلك يتجلى بأسلوبه السهل الممتنع،إذ يتصف أسلوبه في تركيب أبياته الشعرية بسلاسة المفردات ووضوح معانيها،وصدق عاطفتها،ما يجعل قصائده-في مجملها- أكثر إثارة للمتلقي واقرب إلى نفسه وخلجات وجدانه.

ومن وحي القراءةَ المذكورة آنفاً،ندرك أيضاً تميز شاعرية -الطاهر-بلغةٍ شعرية عززت بنية القصيدة وساهمت في المحافظة عليها بفضل امتلاكه إمكانيات شعرية غير محدودة،والتي ساهمت في تدعيم منجزه الشعري الواعد بما أفضت إليه من شعرٍ رقيق،إذ اتسم شعره بقوة التأثير وصدق العاطفة،إلى جانب إجادته التفنن في نسج الصورة الشعرية.والعزف ببراعة على نرجس القلب.

وهنا أضيف : لا يختلف المتتبعون لحركية الشعر التونسي المعاصر على تميز تجربة د-طاهر مشي.وقصيدته التي تميزه،رفقة فسيفساء أخرى من الأسماء التي تتشابه حينا،وتتمايز عن بعضها أحيانا كثيرة،بيد أن جميع طرقها الشعرية تؤدي إلى الخروج عن تقاليد كتابة النص الشعري المعاصر تخييلا وكاليغرافيا ورؤية.

ولقد ظلت ثيمة الحب على الدوام الثيمة الأثيرة والمفضلة لدى الشعراء،بل لعلها العتبة الأولى لجُلّهم قبل التّنسك في محراب الشعر الصافي.وهي ثيمة جاذبة يغادرها الشعراء في مقولهم الشعري،ثم ما يلبثون أن يعودوا إليها عبر نصوص مفردة أو عبر مجموعات.

ولا تعوزنا الأمثلة للاستدلال على هذا من تاريخ الشعرية العربية والكونية،فنزار قباني لم يبرح بيت الحب،أما محمود درويش فقد شرب الحب من عيون ريتا،ثم عاد إليه في نصوصه الأخيرة،وغيرهما من الشعراء.ومرد هذا طبعا إلى الطابع الحسي لموضوع الحب المشترك بين الناس،ولاسيما الشعراء منهم لجيشان انفعالاتهم ورقة أحاسيسهم،فضلا عن امتلاكهم وسيلة للتّعبير عن ذلك كاللغة الرقيقة والخيال والتشكيلات البلاغية والإيقاعية.

ومن هنا فمقاربة «أنت..القمر» سيؤطرها قول أدونيس في كتابه «مقدمة للشعر العربي»، «القصيدة شكل إيقاعي واحد أو كثير،ضمن بناء واحد،لكن الشكل الإيقاعي وحده لا يجعل بالضرورة من الكتابة أثرا شعريا،فلا بد من توفر شيء آخر هو البعد أي الرؤية التي تنقل إلينا أو مادتها أو شكلها الإيقاعي».والحقيقة أن ما يقود إلى استحضار هذا التأطير هو انسجامه مع قصائد-د-طاهر مشي،فهذا الشاعر التونسي المتميز شيّد رؤاه الشعرية،التي نستشفها من منطوق قصائده،في قالب إيقاعي آسر.فقد جعل الحبّ مسلكه في الحياة وتعبيرا عن وجوده..

تنتمي هذه القصيدة "أنت..القمر "إلى الشعر الشفيف،أي غير المنغلق على معانيه ودلالاته،فهو يهبك منذ لحظة القراءة الأولى ما يُمتِع الوجدانَ،ومع القراءة الثانية والثالثة تتبدى جواهره ولآلؤه المضيئةُ بالمعاني،حيث يتمظهر الحب ويتبدى في تجليات متعددة ويتخذ أشكالا كثيرة،إذ يتجلى في شكل الشوق،وفي شكل الحنين،وفي شكل التوحد مع المحبوب..

إن ما يَلفت النظر في هذه القصيدة أيضا هو الإيقاعية التي انبنت عليها،فلم يركب الشاعر مركب المتقشّف في هذا الجانب،وقد فعل هذا بتفرد ظاهر،فالقصيدة تجلت لي متحررة من ضغط الإيقاع المفتعل،إنه إيقاع أتى عفو الخاطر والقلب،ولم يتقصده الشاعر قصدا.هو إيقاع داخلي يأسر أذن السامع،إيقاع ينبني على تكرار الحروف والبنيات اللغوية،وينتج عن ما ينشأ بين الكلمات من علاقات عن طريق التجاور.

وأخير، وعلى سبيل الختام أقول :

قاصرٌ هو الحرف عن الإمساك بكل خيوط إبداعك أيها الشاعر السامق..وأتمنى أن أكون قد طرقت بعضاً من ملامح الجمال بين ربوع قصيدتك الخلابة (أنت..القمر)التي سنرقص على ايقاعها الجميل-رقصة زوربا اليوناني-دون أن ينال منا الإرهاق والتعب..

اخر الأخبار