الاندلس- القدس اول السقوط واخره.. فكيف يبدأ النهوض؟

تابعنا على:   10:50 2023-06-22

صالح عوض

أمد/ قبل أكثر من خمس قرون سقطت اخر معاقلنا بالاندلس بعد تميز حضاري استمر اكثر من 800 سنة.. سقطت ليس بسبب قوة العدو العنصري المتخلف المتوحش انما بالاسباب نفسها التي سقطت فيها فلسطين..من سقوط الأندلس الى سقوط القدس اكتملت رحلة الانهيار..
مملكتنا بالاندلس هي من ارقى النماذج الانسانية الحضارية ومن اعظم نماذجنا الحضارية الطليعية المتقدمة من حضارتنا في اطلالتها على الغرب تقدم له الثقافة والعلم والقيم فيما كان يغص في دياجير القرون الوسطى.. ولايزال المنصفون من علمائه يشيرون الى مرجعيتنا الحضارية له في شتى العلوم من الخوارزميات الى الفلسفة وعلم الاجتماع.
الاندلس .. ليس سهلا تصور ان يتم انهيار كيان حضاري انتج العلم والفن والثقافة وقدم عناوين لها في العالم من ابن حزم وابن رشد وابن خلدون وابن زيدون وعباس بن فرناس وزرياب.. وليس سهلا تصور ان يتبخر الاسلام في الجزيرة بمثل ذلك المشهد الفظيع.. كيف انتصر الجهل والتخلف والعنصرية على السعة والراحة والسعادة والنهضة.. هناك عوامل اخرى لابد من الانتباه اليها.

جرح غائر فتح في قلبي بعمق وانا اتابع قبل تناول الكتابة في هذا الموضوع عدة دراسات وتقارير عن الاندلس واستمع للمؤرخين وللموريسكيين والاندلسيين عموما وللمنصفين من مفكرين ومؤرخين.. اسماء عديدة تنهض الان بالاندلس تزيح الركام عن الوثائق وتنفض الغبار عن الارواح وتنشط لاعادة الثقة للموريسكيين الذين يمثلون اكثر من نصف سكان اسبانيا.. ليعيدوا لاهلها الثقة والفخر بحضارتهم ومملكتهم العظيمة.

حقائق كثيرة فتحت امامي واكاد اجزم ان انتقالة معنوية وفكرية مذهلة حصلت لي وانا استمع الى انين المعذبين في محاكم التفتيش او همس العجائز لاولادهن عن حقيقة دينهم بعد ان فرض عليهم تغيير الدين والاسم.. تجعل من جرح القدس أعمق غورا وأكثر ايلاما.

قراءة في أي مرحلة:
أهمية قراءتنا للعلاقة الفكرية والمنهجية بين سقوط الاندلس وسقوط القدس في هذه المرحلة انها تتجه الى الخروج من الغيتو الفكري والطابو الذي يحالوه المنسلخون من مجد امتهم وشعورهم بالدونية.. فحضارتنا في الاندلس هي نتاج طبيعي لنهوضنا وثمرات منهجنا.. كما ان سقوطنا هناك يعني تحللنا من منهجنا وارتكاسنا.

الان تلوح فرصة بتفكك قوة الهجمة الاستعمارية او انشغالها لفترة لن تكون قصيرة ترى هل تكون هي الثغرة الملائمة لانبعاث شعاعنا الحضاري.. ومن اليقين أن للقدس تأثيرها المغناطيسي لمشاعر الأمة كما أنها القنديل الذي يضيء الجملة الحضارية كلها ومن اليقين أيضا ان الانتصار في القدس هو تتويج انتصار العرب في أكثر من صعيد كما أنه انتصار للرسالة الحضارية بتجلياتها وخروجها من التجمد والتشتت.. ان الأمم كالجسم -كما أن التاريخ كالجسم- لها مراحل حمل ومخاض وفتوة ومراحل كهولة وشيخوخة وانهيار، وكل ذلك نتاج تفاعل بين الشروط الذاتية والموضوعية.. نحن لن ننطلق من الصفر فلقد حاولنا مغالبة المشروع الاستعماري هنا وهناك وحققنا بعض الانتصارات ولكن حققنا وعيا أكثر وهاهي تتكشف لنا المسألة على حقيقتها انها في الجوهر قضية وعي وادراك بالذات وبالاخر..
الغريب في تجربتنا الانسانية اننا رغم انهيارنا او على وجه أصح انهيار تجربتنا البشرية لم تنهر رسالتنا بمفاهيمها وقيمها ومنهجها كما كان حال كل الحضارات والامبراطوريات السابقة التي ضاع مع انهيارها كل حصورها من واقع الناس.. لان الانهيار كان فقط في سلوكنا البشري وتجربتنا البشرية التي افترقت شيئا فشيئا عن صفاء المنبع وهذا ما يعيد الرونق من جديد لمبررات تمسكنا برسالتنا على ضوء الحاجة الانسانية الملحة لمن ينقذ البشرية.

حقبة الانهيار والسقوط:
وبالنظر لتاريخ الأمم صعودا وانهيارا تتضح معالم القوة والضعف كسنن ثابتة متحكمة بسياق حركة الأمم والتاريخ.. ومن هنا تلمع من جديد بوهجها حقيقة العلاقة العجيبة تلك التي تربط بين سقوط الأندلس وسقوط القدس.. سقوط الأندلس هو بداية انهيار عالميتنا العربية الإسلامية الأولى عندما بدأت عوامل الضعف والتفكك الداخلي سريانها في المجتمع والدولة وبتراكم مستمر فكان ذلك هو الداعي الأكثر إغراء لهجوم القوى المعادية على معاقلنا مشرقا ومغربا وصولا الى سقوط القدس حيث كانت خاتمة انهيارها فكان سقوط القدس إعلانا مدويا عن سقوط الأمة كلها على أكثر من صعيد.. ولم تكن المسألة أكثر من وقت كل مرحلة تأتي تكون أسوأ من سابقتها.
لقد ضاع الاندلس وادارت له الامة ظهرها وترك الاندلسيون الى مصيرهم البائس.. صحيح تأخر سقوط الاندلس قرنين من الزمان بسبب نجدة المرابطين والموحدين ولكن ذلك الدخول لم يكن اضافة حضارية للاندلس انما كان تدخلا عسكريا سريعا ما ذاب في نعيم الاندلس والمتع فسبق عليه كتاب الانهيار.
لقد ادارت الامة ظهرها للاندلسين المشردين والمطرودين من ارضهم ولم تستطع السلطنة العثمانية القيام بما هو واجب نحو الاندلس وربما رات فيما اقرب اليها من جغرافيا اكثر اولوية من التوجه للاندلس.. وانشغلت ممالك العرب والمسلمين في حروبها الجزئية وسلمت بضياع درة الحضارة العربية الاسلامية..
خمسة قرون من مسلسل التجارب والاخطاء ننتصر حينا وننهزم احيانا ولكن كل حروبنا التي خضناها لم تكن في الصميم انما كانت لرد عدوان بفعل حمية دينية او وطنية او قومية دون امتلاك ادوات الحضارة التي فقدناها بضياع الاندلس.. أي فقدنا الرؤية و القدرة على الامساك بزمام التقدم الحضاري. وتحت الضغط الرهيب على العقل العربي والاسلامي تمت زحزحته عن ترتيب خارطة طريقه وفقد القدرة على ترتيب اولوياته وحتى عندما نحقق انتصارات فسريعا يلتف العدو ويفرغها من كل محتوي وهكذا تذهب جهودنا هباء منثورا.
هاهو الاندلس شاهد رغم كل هجمة الحقد العنصري على ان امة عظيمة كانت هنا ورغم كل ما مارسه العنصريون من طمس معالم الحضارة وتحويل عناوينها وتغيير وظائفها ورغم كل ما مارسه المستشرقون العنصريون من تشويه للتاريخ وتحريف للكتب والوثائق الا ان المارد العظيم يكاد يخرج من تحت الرماد لينبعث باسترداد الوعي واستعادة الروح.
التنكيل الذي لحق بالاندلسيين لم يسبق ان مورس على احد من اقوام الارض الا اهل ااخدود ..وقد شهدت المواجهة سابقة تاريخية خطيرة ان ينتصر الجهل والقبح والتخلف والقذارة والعنصرية على النظافة والجمال والتطهر والحضارة والفن.. كانت مذبحة لعجلة التطور الانساني كما قال منصفو الحصارة الغربية ان ماحصل في الاندلس جريمة مكتملة الاركان بحق الحضارة الانسانية كما ان هزيمة المسلمين ببواتيه كانت بمثابة تاخير النهضة في اوربا عدة قرون.. ولكنها ايضا كانت محكومة لسنن ونواميس اخل بها الاندلسيون بشكل مباشر ثم تخلى عنهم العرب والمسلمون فيما بعد بل لعل نكبة الاندلسيين اوهنت عزائم العرب فكادوا في المغرب العربي يسلموا قلاعهم واحدة تلو الاخرى للصليبيين الذين بداوا بفرض التنصير عليهم عنوة.. ولولا نحدة العثمانيين لاحدث ذلك في المنطقة تحولات كبيرة خطيرة..
لم يخرج من الاندلس الا القلبل من أهلها فرارا الى بلاد المغرب العربي المغرب الاقصى والجزائر وتونس حاملين انكسارهم وهمهم وثقافتهم وتقاليدهم.. وهذه معلومة مهمة تكشفت لي من خلال بحوث الباحثين المنهجيين فيما تم تحويل الغالبية العظمى التي بقيت بالاندلس الى حالة جديدة “مورسكيين” تمارس عليهم ابشع عمليات التطهير الفكري والثقافي وتعيير دينهم واحيانا التطهير العرقي بمحاكم التفتيش او بالتهجير الى امريكا اللاتينية..

وللعلم يجدر ان نشير الى سبق الاندلسيين باكتشاف العالم الجديد قبل كريستوفر بزمن بعيد.. وبعد ان استتب الامر لمحاكم التفتيش والعنصرية من التحكم في الاندلس وتنصير المسلمين وتغيير اسمائهم جلبوا بعضهم الى الكنيسة وخدمتها وارسالهم تحت الرقابة الى المريكا اللاتينية ولكنهم هناك ايضا خباوا دينهم وتجمعوا في قرى بدأت تظهر انتماءها من جديد.
القدس اخر المحطات: وهي عنوان فلسطين اقتحمها المغول مرة واستعمرها الصليبيون اخرى.. ولكن ما كان ليستتب الامر للمغول او الصليبيين فيما كانت هناك بقية من روح في الامة ولازالت عجلة القصور الذاتي تتملك حركتها.. وعندما قارعت الامة مبعثرة مستعمريها وانتهت الى طرد عسكرهم في كل الاماكن استفاقت على ان بواعث نهضتها تم تفريغها بفعل تركمات واختراقات عديدة فلقد فقدت طلائع التحرير في الامة بعد انتصارها تحويل شعارات الوحدة والنهضة وامتلاك الادوات والتجدد الى برامج عمل وخطط ورؤية.. فاصبحت في معظمها تدور في فلك التبعية الاقتصادية والسياسية لقوى دولية لا تريد لها النهوض.. في هذا المرحلة تسقط فلسطين.

قراءة موضوعة القدس:

سقوط فلسطين ياتي في ختام مرحلة الانهيارات التي بدات من سقوط الاندلس ومن الواضح ان الامة تكون قد اكملت تماما عالميتها الحضارية التي بدات من الخلافة الراشدة وفتح القدس الى ضياعها وتجزئتها وضياع القدس.
لن نتحدث هنا عما لاقاه ويلاقيه شعب فلسطين من التشريد والتشتتيت والقهر والتطهير العرقي والعنصري.. لن نتحدث عن ذلك بسبب أن وسائل الاعلام تنشر بعضه بما يكفي للتدليل على جريمة المشروع الصهيوني على ارض فلسطين.
ولكن ينبغي ان نتناول موضوعة القدس في سياقها الحضاري والتاريخي والا فلن ننال شيئا من نصر او تقدم رغم كل مانبذل من جهود.. وهنا علينا توسيع بيكار التحليل والدراسة بحيث يصبح انغماسنا في شرح مايتم على ارض فلسطين في مواجهة الكيان الصهيوني بمثابة دفن للراس في الرمال..
قد يكون جرح القدس صارخا ولكن جسد الامة كله جراح دامية فكل مكوناتنا مبعثرة بل متصارعة بترولنا يدمر عواصمنا واعرقانا تتناثر ومذاهبنا تتنافر وطبقات مجتمعنا ومكوناته الوظيفية تتصارع ودولنا الوطنية تتهاوى او على وشك ومما يزيد المسألة تعقيدا غياب الرؤية والوعي او ضياع صوته في حمى التصارع والتآكل الذاتي.
هنا تصبح موضوعة القدس ملخصا لقضايا الامة في كل قطر من اقطارها ولعلنا اصبخنا على يقين بان لانهضة لبلد عربي منفردا ولا عزة ولا امن لبلد عربي منعزلا.. وان التكامل العربي والتعاون الاستراتيجي باي صيغة كانت شرط لايمكن تجاوزة لحماية البلد والقطر..
ومن بركات القدس انها جامعة معنويا للعرب والمسلمين وبالامكان الاتكاء عليها في بعث الروح في الامة كما انه بقناديلها يمكن كشف اطراف العدوان ومخططاته التي تستهدف الامة.
وهكذا تتضح مراكز الانارة لعالميتنا العربية الاسلامية الثانية.. وتتضح اهمية القدس في الجانبين الروحي والوعي الاستراتيجي وبهذا تشكل نقطة انبعاث رؤية ومشروع وخطة واستراتيجية لاستعادة امتنا نفسها ودورها.

مخطط ابرهام محاولة لاعاقة النهضة:

فيما نحن نحاول الاقتراب من وضع خارطة طريق لخروجنا من انهيارنا التاريخي فان هناك مخطط يضع اليات لانهاء المتبقي منا انهاء ديننا وتدمير عواصمنا وقيمنها وتحويلنا الى قرى متقاتلة وقبائل متنازعة على طريق ابرهام.
عمليا خطا اصحاب المشروع خطوات بعيدة في مشروعهم يحاولون بداية صياغة رواية لمسار ابراهيم ثم بناء كياناتهم الدولية على هذا المسار الذي سوف يعتبر ملكا بشريا وهنا تسقط سيادة الدول و يتم التلاعب بالمقدسات ويتم استبدالها ويتم نشر الافكار الدينية البديلة وصناعة مقدس جديد.
لقد ثبتوا على الارض العربية علامات ذلك وليست فقط رفع المسلة الماسونية في اماكننا المقدسة انما ايضا بالتضييق على الاسلام بتشويهه وشيطنته و تفريغ طقوسه وشعائرة ورفع شعار اعادة الحقوق للبهود في خيبر ومكة والمدينة وان مكة بيت ابراهيم وهي حق لاصحاب الديانات الثلاثة وبث افكار تحت غطاء التسامح ووحدة الدين الابراهيمي وذلك كله لجعل المنطقة العربية وهي المقصودة بالمخطط شذرا مذرا لا جامع لها ولا وجهة وهنا تكون اخر عمليات انهاء احتمال النهوض الحضاري.
ان المتامل فيما تعانيه شعوب المركز العربي يدرك ان المخطط يكون قد تقدم خطوات خطيرة بدون اي مقاومة معتبرة كما يعتقد الاستعماريون فهاهي مصر تستفز بسد اثيوبيا وما يمكن ان يمثل من خطر بيئي ومصيري على اهل مصر واما العراق وسورية فلقد تبعثرتا والتفسخ يتعمق فيهما والسودان وليبيا كما نرى معلقتين من ارجلهما.. لكن كل ذلك لاقيمة له فلازالت الامة تكتنز روحها وامجادها التاريخية وان كانت هناك انكسارات كبيرة فهناك كذلك انتصارات عظيمة ومعجزة فلقد استطاعت هذه الامة ان تسحق امبراطوريتين في مرحلة واحدة.

تصادم المشروعين: هكذا نجد انفسنا نظريا وتاريخيا في لحظات الصدام الحقيقي بين امة تحاول الخروج من انهيارها ومشروع يريد ان يبدد كل ماتبقى فيها من امكانات النهوض.. هذه هي ارضية الكلمات الجديدة والافكار الجديدة.. وهنا لايمكن اغفال المشاريع الاخرى المحيطة كطريق الحرير وما يمليه علينا من تحديات التحالف او التباعد وكل خيار من الاثنين يملي علينا خطة واستراتيجية وبرنامج من نوع اخر عما نحن عليه الان.

كلمات دلالية

اخر الأخبار