في شعر الشاعر التونسي الكبير د.طاهر مشي..

اشراقات الإبداع.. وتجليات الكلمة

تابعنا على:   10:45 2023-08-30

محمد المحسن

أمد/ في القصائد وحدها نعيد بناء العالم..(ألن غسنبرغ)

لعل من أبرز الخصائص المميزة للعمل الفني عموما والملفوظ الشعري خصوصا انه عمل يستفز المتلقي ويحمله على التفكير والتامل في كل حرف وكل كلمة بل يجعله يبحث عما خلف السطور وخلف الكلمات.

ومن هنا يمكننا القول أن الجمالية في الشعر جماليتان : هما جمالية الكتابة وجمالية التلقي .

فالطاقة الشعرية تتسع كلما اتسعت دائرة القرّاء لان كل واحد سيتناول النص من منظوره الخاص ويرى فيه ما لا يرى غيره .

ولا يفوتنا الإشارة الى أنه من شروط جمالية النص الشعري أن تكون المعاني والصور متمنعة مستفزة لا تسلم نفسها للمتلقي بيسر بل تحمله على أعمال فكره وقراءة القصيدة بترو،وبذلك يمكننا الإقرار بكثير من الإطمئنان أن النص الشعري نصان: نص مكتوب على ضوء رؤية صاحبه،ونص مقروء حسب رؤية المتلقي .

وهنا نستحضر قول تودوروف ”ان النظرة إلى الحدث الواحد من زاويتين مختلفتين يجعله حدثين منفصلين"

وقد لا أجانب الصواب إذا قلت للشعرية أساليبها البليغة،ومؤثراتها المهمة في تفعيل الرؤية الشعرية في القصائد الحداثية المعاصرة،لاسيما حين تمتلك قوة الدلالة المكتسبة من شعرية الأساليب وتنوعها وغناها الجمالي بالتقنيات الفنية المعاصرة،فالشعرية -بالتأكيد- تثيرها الأساليب الشعرية المتطورة،ومحفزاتها الإبداعية الفاعلة في تكثيف الرؤية الشعرية،وتعميق منتوجها الإيحائي المؤثر.

في هذا السياق بالتحديد،تتجلى الرؤيا الإبداعية الخلاقة التي ترتقي بالنسق الشعري،وترقى بمستويات مؤشراته الجمالية للشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي ،الذي -ينجت-نصوصه الشعرية بحبر الروح ودم الفصيدة..

وهنا أقول للقارئات الفضليات والقراء الأفاضل: لا ترتقي الرؤيا الجمالية إلا بمنتوج جمالي،وشكل جمالي جذاب؛وهذا التفاعل والتضافر بين الإحساس الجمالي والشكل الجمالي هو الذي يرقى بالحدث الشعري،ومثيراته الجمالية..

وهذا ما تجلى بوضوح لا تخطئ العين نوره وإشعاعه في جل قصائد د-طاهر مشي.

وهذه واحدة من قصائده المدهشة.. فأضبطوا أنفاسكم قليلا :

حِينَ تَعْشَق الرُّوح

حِينَ تَعْشَق الرُّوح …

يَبُوح القَلَم ..

تتوارى الآلام

في طَيَّاتِ الصَدر

سَكِيـــــــــــــــنةً

قَلبا مَجْرُوحا ..

فتولَد لَحَظَاتُ سَعَادة

نَكْتُب فِيها الحَياة ..

نَخُط وصْفَة دَوَاء

لتَنْدَملٓ جُرُوحٌ

و تُولد آلاَمٌ جديدةٌ

وَ أَوْجَاعٌ فِي صَمِيمنا

تَنْحَت نَدَبَاتٍ مِن الزَّمَن.

هَكَذا هِي الرُّوحُ العَاشِقة.

مِنْها حُبٌ فِي الوُجُود

وُمِنهَا حُب للحَياة

يَتَغَير الحَالُ وَلَا يَدُوم.

يَوم ألَمٌ وَ يَوم أَمَلٌ

وَ يَومٌ يَأْتينَا بالسَّعَادَة

ولَو كَانت تِلك اللحَظَات قَليلة

فَإنهَا تُسَجل في َدفَاتِرنا

نَعِيشُها فَتَكُون زادَنا للوُجُود

تَمُر وَلاَ تَمْضِي

تُصَاحِبنَا عَلى الدَّوام

وَ تَأخُذ مِنا نَصِيباً مِن العُمر .

أترك للسادة القراء حرية التفاعل مع هذه اللوحة الإبداعية التي نحتتها بمهارة واقتدار أنامل الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي

في القصائد وحدها..نعيد بناء العالم..(ألن غسنبرغ)

هذا هو الهدف الأسمى للشعر عموما،أن يبني عالما آخر،عالما مختلفا عن العالم الذي نشغل فيه حيزا من المكان وبرهة من الزمن.

ولا شك أننا اليوم وبفعل تطور مختلف العلوم،أصبحنا مقتنعين أن هناك عوالم أخرى يمكن أن يطمئن اليها الانسان خارج عالم الواقع المباشر.هذه الحقيقة العلمية توصل اليها الشعراء وكبار الفلاسفة منذ أمد بعيد .لكن للأسف قليلون من يستطيعون معايشة هذه الحقيقة الثابتة .

وقصيدة د-طاهر مشي هذا الشاعر التونسي الشاب "حِينَ تَعْشَق الرُّوح"،تمتلك من مقومات القصائد العليا فنيا ما يؤهلها لأكثر من دراسة نقدية وعلى مستويات عديدة، فقد استطاع من خلالها الشاعر بحس شعري راق،وبذوق فني رفيع أن ينقلنا الى عالم آخر.وكأنه يعيد بناء عالم خاص به ،عالم يستجمع فيه الشاعر كل طاقاته المدفونة في لغة منسية لا يتذكرها الا الشعراء الكبار ليشكلوا ذاكرة أخرى،والعالم خارج مفهوم الذاكرة لايساوي شيئا.فالبذاكرة تتعمق روابطنا مع مختلف مظاهر العالم،وبالذاكرة نختار ما ترتاح اليه أنفسنا ليرافقنا كنور نضيئ به عتمات حياتنا،ونعدم ونتخلى عما يشوش علينا هناءتنا الدقيقة التي نحتاجها كثيرا خاصة في عصرنا هذا..

لقد توسل الشاعر لغة انسيابية رقيقة تخدم غرض القصيدة ومقصدها مصبغا عليها أسلوبا مرنا وشفافا في بناء متناغم ومتناسق كأنه يستحضر مقولة كيتس عن بناء الشعر " إذا لم يجيء الشعر طبيعيا كما تنمو الاوراق على الأشجار..فخير له ألا يجيء " .

وفي النهاية تجدر الى اني التزمت في قراءتي هذه بنص القصيدة "حين تعشق الروح "،وحده التي استوقفتني كثيرا منذ قراءتي الأولى لها .

إنها "الروح العاشقة" يا سادتي الكرماء..

اخر الأخبار