قلم السياسة مغمّس بحبر الثقافة(1)
د. عبد الحسين شعبان
أمد/ حين طلبت مني الكاتبة والناشطة السعودية عالية فريد كتابة مقدّمة لكتابها، استجبت لاعتبارات عديدة ولأسباب خاصة وعامة على الرغم من انشغالاتي.
أولها – أن عالية فريد تتمتع بجديّة وصدقية ورؤية، وكنت متابعًا لبعض نشاطاتها وكتاباتها، منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، وكان آخر لقاء بيننا في شهر ديسمبر / كانون الأول 2019 خلال مشاركتي في مؤتمر مؤسسة الفكر العربي بالظهران، وعلى هامش المؤتمر استضافني "منتدى الثلاثاء" الذي تأسس العام 2000، وتشارك فيه عالية بحيوية ويترأسه الأستاذ جعفر الشايب، في دعوة كريمة للحديث أمام نخبة سعودية متميّزة من السيدات والسادة وبحضور عربي وازن، وذلك في مدينة القطيف. وفي مرّة أخرى ألقيت محاضرة في المنتدى (عبر الزوم)، وقد تمّ طبعها لاحقًا في كرّاس خاص، وهي بعنوان "في الحاجة إلى التسامح".
وثانيها – لأن ما يجري في المملكة العربية السعودية يهمّني كثيرًا، خصوصًا ما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة من تطوّر متسارع في مجالات مختلفة، وهو ما يحتاج إلى وقفة معرفية على المستويات الداخلية والعربية والإقليمية، إضافة إلى المستوى الدولي، حيث أصبحت المملكة تحتّل مكانة متميزة.
وثالثها - لأن ما كتبته عالية يشكّل نافذة متميّزة للاطلاع على حقيقة ما يجري، وفقًا لبارومتر يمكن من خلاله قياس درجة حرارة الجو السياسي، خصوصًا وأن باقة المقالات التي ضمّتها دفتي الكتاب تتوزّع على حقول عديدة، من أهمّها: قضايا المرأة وتمكينها، بما فيها مسائل العنف الخاص والعام وبعض مظاهر التمييز والاستعلاء الذكوريّة كما تسمّيها، إضافة إلى قضايا المواطنة والهويّة، كجزء من متطلّبات الحداثة والنهضة والعصرنة، وذلك في إطار التطوّر الحاصل في المجتمع السعودي، ولاسيّما في العقد الاخير.
وشمل الكتاب 48 مقالة غطّت عشر سنوات (2011 – 2021)، وهي فترة دقيقة وحسّاسة من تاريخ المملكة، شهدت منعطفات كثيرة في إطار المتغيّرات والمستجدّات الإيجابية والسلبية التي شهدها العالم العربي، بل والعالم أجمع.
وقد لامست عالية العديد من المواضيع الحساسة بلغة شفافة وراقية، انطلاقًا من زوايا نظرية بالدرجة الأساس، لاسيّما ما يتعلّق بحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، محدّدة هذه المنطلقات كمرجعية عصرية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الحديثة.
وتوقّفت أيضًا عند العديد من القضايا العملية مثل مشاكل اللّاجئين وذوي الاحتياجات الخاصة وحقوق الطفل وغيرها، من خلال العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ارتباطًا بالتنوّع الذي يعرفه المجتمع السعودي، وانطلاقًا من قناعاتها بأهميّة مبادئ التسامح وضرورة تمثّلها، وذلك بعيدًا عن "شرك الطائفية".
***
أستطيع القول أن مجموعة المقالات تمثّل وجبة دسمة لمن يريد الاطلاع على الأوضاع في المملكة العربية السعودية من منظور موضوعي، وهي حتى وإن تحمل شيفرة النقد، لكن هذا النقد يتّخذ منحىً إيجابيًا، هدفه التطوير والتعضيد، ولاسيّما من خلال مقترحات عملية ملموسة أحيانًا واقتراحات بنّاءة. ولعلّ وظيفة المجتمع المدني أو أي جمعية أو ملتقى أو مركز بحثي أو منتدى، ينبغي أن يعلي من شأن "الحق في الاقتراح" وليس "الحق في الاحتجاج" فحسب، وهو ما ينبغي أن يتّخذ قنوات عديدة ومفتوحة، بينه وبين أصحاب القرار، والهدف تجسير الفجوة وتقديم ما هو مفيد في دعم عملية التنمية، نقدًا وتدقيقًا ورصدًا وتوثيقًا.
تناولت حزمة المقالات مختلف جوانب الشأن السعودي، وهو الغالب الأعم، دون إهمال جوانب أخرى لا تقلّ أهمية وانشباكًا بما له علاقة بالمملكة، وهي التي تخصّ المجتمع العربي بشكل خاص والمجتمع الإسلامي بشكل عام، وهذه القضايا متداخلة ومترابطة ومتفاعلة، لاسيّما تلك التي تخصّ المنطقة ومستقبلها ورفاهها، والتي تتعلّق بتسليط الاضواء على التنمية بجميع أبعادها.
وحين نقول التنمية اليوم، فإننا نعني "توسيع خيارات الناس"، أي التنمية المستدامة ذات التوجّه الإنساني الشامل على صعيد المشاركة والشراكة في الوطن وتحقيق المساواة والعدالة، في إطار مواطنة حرّة ومتكافئة دون تمييز، وتلك إحدى مستلزمات النهضة الأساسية والتقدّم الحقيقي مجتمعيًا، على جميع المستويات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية والتربوية والبيئية وغيرها.
لقد حقّقت المملكة العربية السعودية قفزات كبيرة في السنوات الأخيرة من خلال سياسات الانفتاح ومشاركة المرأة وتطوّر الجامعات، وفي مستوى الخدمات الصحيّة والبلدية والبيئية وفي التخطيط لمشاريع مستقبلية واعدة، بما يعزّز التضامن والتكامل المجتمعي من جهة وعلاقة المواطن بالدولة من جهة أخرى، وهو ما تعكسه توجّهات عالية فريد واختياراتها الذكيّة لموضوعات ذات طبيعة تنمويّة. ولم يكن ذلك ممكنًا لولا توفّر إرادة سياسية جريئة، حيث كان أحد المؤشرات المهمّة هو مشاركة المرأة في مجلس الشورى وفي التصويت والترشّح للمجالس البلدية، وكلّ ذلك يصب في توسيع دائرة المشاركة.
ولعلّ إحدى مؤشرات التقدّم، هو مشاركة المرأة، إضافة إلى مبادئ المساواة، سواء أمام القانون أو في القضايا العامة والمجتمعية، التي هي أمر لا غنى عنه، وصولًا إلى ترسيخ التعدديّة والتنوّع، وهو ما يعزّز الوحدة الوطنية ويعطيها معان سامية بالحقوق والواجبات، ومن أبسط الحقوق حتى أرقاها، الأمر الذي سيؤدي منهجيًا وعمليًا إلى تغيير نمط العلاقات السائدة، سواء إزاء المرأة أو إزاء الآخر المختلف.
***
ولم تكتفِ فريد بالترحيب بالخطوات الإيجابية، بل أخذت على عاتقها أيضًا تقديم مروحة واسعة وفرشة عريضة من المقترحات المستمدّة من فهمها الحقوقي، إضافة إلى رؤيتها الإيجابية لأهمية ودور العلاقة السليمة بين المثقف والدولة، ومثل هذه العلاقة كلّما اتّسمت بالثقة، فإن أصحاب القرار وأصحاب الرأي سيسهمون على نحو متفاعل ومتميّز في دعم عملية التنمية ومتابعة تنفيذ مفرداتها، وفتح آفاق جديدة لها والوقوف ضدّ القوى الخارجية على اختلاف أهدافها ومطامعها التي تريد فرض أجندتها، وذلك بالسعي لإحداث تصدّعات واختراقات، من شأنها إلحاق الضرر بالمملكة وشعبها ومستقبلها.
لقد خطت المملكة خطوات مهمة بفتح ثغرة في "التابو"، الذي كان سائدًا بسبب الموروث والعادات والتقاليد والقراءات الإغراضية للنصوص القرآنية المقدّسة ولمبادئ الشريعة السمحاء، لكن عملية التغيير تحتاج إلى تراكم طويل الأمد وجهد يشارك فيه الجميع، وذلك لإحداث التطوّر النوعي، الذي تقتضيه سمة العصر والحياة والصيرورة الإنسانية، وهو ما أصبح مدركًا ومعمولًا به، علمًا بأن الحقوق لا نهاية لها، وهي في حالة تطوّر دائم، وإضافة مستمرّة وتعميق وتجذير، وتلك هي من طبيعة الأشياء وتطوّر المجتمعات على مرّ العصور.
***
ثمة خيط رفيع، لكنه واضح الملامح، يظهر في كتابات عالية فريد، وهذا الخيط ظلّ جامعًا وحاضرًا في جميع مقالاتها، وهو الدعوة للسلم المجتمعي ونبذ العنف بجميع صوره وأشكاله، واعتماد الحوار وسيلة حضارية للوصول إلى تفاهمات مجتمعية.
والحوار بالنسبة لمنتدى الثلاثاء، ليس خيارًا فحسب، بل ضرورة أيضًا، خصوصًا ما وصلت إليه أوضاع بعض البلدان العربية من احتراب واقتتال لأسباب طائفية أو إثنية أو غيرها، وقد اكتسب المنتدى خبرة زادت عن عقدين من الزمن في دعوته تلك، وفي استضافته للألوان الفكرية والاجتماعية والدينية المختلفة.
ولعلّ ما حصل في العراق، بسبب الغزو الأمريكي، وليبيا واليمن وسوريا خير دليل على ذلك، وحتى مجتمعات أخرى جرت فيها عملية التغيير، إلّا أن العنف والعنف المضاد، وإن كان أقل حدّة، إلّا أنه قاد إلى تداخلات دولية وإقليمية أثّرت في المشهد العام، وهو ما كان من الآثار السلبية لما أُطلق عليه "الربيع العربي".
إن أجواء التفاؤل التي احتاجت عالية فريد إلى إشاعتها اصطدمت أحيانًا بموجة كثيفة من التشاؤم بسبب العنف، وهذا نتاج تعصّب، والتعصّب إذا ما استفحل وتمكن من الفرد والمجتمع وصار سلوكًا يتحوّل إلى تطرّف، والتطرّف هو ابن التعصّب، وحين ينتقل التطرّف من التفكير (التعصب) إلى التنفيذ (التطرّف) يصبح عنفًا، والعنف هو نتاج اتحاد التعصّب ووليده التطرّف، وحين يضرب العنف عشوائيًا يصبح إرهابًا، وحين يستهدف إضعاف ثقة الدولة والمجتمع والمواطن بأنفسهم، وثقة المجتمع الدولي بنفسه ويكون عابرًا للحدود يصبح إرهابًا دوليًا، خصوصًا بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، إضافة إلى جرائم العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين.
ومن هذه العناوين تستخلص عالية فريد ضرورة الحد من الموجة الطائفية التي ارتفعت، والاستقطابات والشحن المذهبي والطائفي والتحذير من مخاطرهما، ليس على أوضاع الحاضر حسب، بل على أوضاع المستقبل أيضًا، خشية من انتقال سيناريو الربيع العربي بوجهه السيء إلى بلادها وإلى بلدان عربية أخرى، خصوصًا بالترويج لثقافة الكراهية والأحقاد والعصبيات الجاهلية، وتغليبها على ثقافة الأمم ووحدتها، داعية إلى الرشاد والحكمة في معالجة قضايا الاختلاف والمطالب.
***
الاستنتاج الأهم الذي تحاول عالية فريد الإضاءة عليه يتلخّص ﺑ : تعزيز المواطنة لتطويق الطائفية والخروج من مأزقها. والمواطنة في الدولة العصرية تقوم على أربعة أركان أساسية هي: الحريّة، ولاسيّما الحريّات العامة والخاصة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وهذه المبادئ بالطبع تأخذ خصوصيتها في كلّ مجتمع من درجة تطوّره، وهي تعكس مرحلة معيّنة من مراحل نموّه.
ولتأصيل هذه المبادئ تتّجه عالية إلى التراث العربي – الإسلامي، فضلًا عن الفقه الدستوري الذي يقوم على "التعاقد الاجتماعي"، وذلك لتحصين الهويّة التي انتعشت في الربع الأخير من القرن العشرين، خصوصًا في العشرية الأخيرة منه بعد الإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية الشموليّة، وانتهاء عهد الحرب الباردة (1946 – 1989)، والصراع الأيديولوجي بصيغته القديمة، وبداية أنواع جديدة منه، لاسيّما باستهداف الإسلام. والحديث عن الهويّة لدى عالية فريد هدفه تعزيز الهويّة الجامعة وإدارة التنوّع واحترام الهويات الفرعية والخصوصيات المتعدّدة.
وفي دعوة عالية فريد حِرص وطني شديد لوفاق نابع عن فهم حضاري للدين وقيمه، في إطار مواطنة موحّدة ومتكافئة، بعيدًا عن التشتّت والتذرّر والتمذهب ومحاولات الاستتباع أو الانغلاق، في رحاب هويّة جامعة ومنفتحة، وأجواء من التسامح لأنه فطرة إنسانية مثل حب الوطن، ووضعه في مرتبة من الأخلاق الرفيعة، دون أن تنسى الإشادة بدور قيادة المملكة، خصوصًا حين تتناول اليوم الوطني فتفيض مشاعرها باستذكار جهود المؤسس المغفور له عبد العزيز آل سعود، الذي وحّد البلاد تحت راية التوحيد وأرسى دعائم المملكة وصولًا إلى رؤية 2030.
***
إن مجموعة مقالات عالية فريد وإن كانت متفرّقة، لكنها جاءت متّصلة متداخلة ومتفاعلة، وهي أقرب إلى قصيدة وجدانية مكتوبة بلغة أنيقة وجملة رشيقة وفكرة عميقة.
عالية فريد: المرأة السعودية - قوة الحاضر ورهان المستقبل، دار الانتشار العربي، بيروت، 2024.
عبد الحسين شعبان : مفكر وأديب وناقد، عضو اتحاد الكتاب العرب (دمشق) وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين (بغداد) - له نحو 80 كتاباً في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والمجتمع المدني والثقافة والأدب، حائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة - 2003).(نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان - بيروت ) ورئيس مجلس أمناء المعهد العربي للديمقراطية (تونس) -الناشر.
نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 8 حزيران / يونيو 2024.