مساءُ الصُّمودِ بلا حُدودٍ ...

تابعنا على:   16:22 2025-10-08

د عبد الرحيم محمود جاموس

أمد/ في البَدءِ كانتِ الفِكرةُ...
نَفضةُ حَجَرٍ يَستفيقُ على نَبضِهِ،
وسُؤالٌ يَحفِرُ مَجراهُ في العاصِفَةِ:
كَمْ يَلزَمُ مِنْ دَمٍ ...
لِكَيْ يُولَدَ الفَجْرُ ...
على هَيْئَةِ وَطَنٍ لا يَنام...؟
***
مَساءٌ يَخرُجُ مِنْ جُرْحٍ قَديمٍ،
يُضِيءُ ما سَقَطَ مِنَّا ...
في الطَّريقِ إلى المَعْنَى،
كَأَنَّ التُّرابَ يَتَهَجَّى ...
أَسْماءَنا على لِسانِ الرِّيحِ،
ويُعَلِّمُ الحَصَى ...
أَنْ يَكونَ ذاكِرَةً ...
***
لَسْنا جِياعًا،
نَحْنُ الَّذِينَ ...
كَسَروا رَغيفَ الصَّبْرِ ...
على رُكْبَةِ الحِصارِ،
وحَوَّلوا الجُوعَ ...
إلى نَشيدٍ ...
يَعلو على المَذَلَّةِ ...
***
لا نَطْلُبُ مِيناءً،
بَل مَمَرًّا إلى أَنْفُسِنا،
إلى البِلادِ الَّتي فينا ...
قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ على الخَرائِطِ ...
***
القُدْسُ لَيْسَتْ قِبْلَةَ النَّظَرِ،
هِيَ نُواةُ الضَّوْءِ،
وسِرُّ النَّشيدِ ...
حينَ يُنْشِدُ التُّرابُ نَفْسَهُ...
***
فَلْتَذْهَبِ المَعوناتُ المَسْمُومَةُ ...
إلى الجَحيمِ،
فالمَذَلَّةُ ...
لا تُطْعِمُ سِوى الخِيانَةِ،
ونَحْنُ نَرْتَشِفُ العِزَّ ...
مِنْ كَفِّ الفَقْرِ ...
ولا نَميلُ...
***
كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ تُرابِ فِلَسْطينَ ...
قَنْديلُ نَبِيٍّ وشَهادَةُ أَصْلٍ،
تَكْتُبُ أَنَّ الأَرْضَ:
لَمْ تُخْلَقْ لِتُقاسَمَ على مَوائِدِ الأُمَمِ،
بَل لِتَكونَ:
مِيثاقَ العَهْدِ بَيْنَ الإِنْسانِ وسَمائِهِ...
***
يَرَوْنَهُ بَعيدًا،
لَكِنَّنا نَلْمَسُهُ في خَفْقَةِ طِفْلٍ ...
يَحْمِلُ مِفْتاحَ بَيْتِهِ كَأَنَّهُ الشَّمْسُ،
وفي يَدِ أُمٍّ تُغَنِّي لِلغائِبينَ:
الطَّريقُ طَويلٌ...
وَلَكِنَّ الحُلْمَ لا يَشيخُ...
***
نَحْنُ أَبْناءُ هذَا المَساءِ،
نُضِيءُ العَتْمَةَ بِظِلِّنا،
ونَحْرُسُ الفَجْرَ ...
كَيْ لا يُغْتالَ في المَمَرّاتِ...
***
فَلا مَجْدَ يُولَدُ مِنْ جُوعٍ،
ولا مَجْدَ يَقُومُ بِغَيْرِ كَرامَةٍ،
ولا وَطَنَ يَكْتَمِلُ ...
إِلّا حِينَ يَلْتَقِي ...
الحُرُّ بِالأَرْضِ،
والفَجْرُ بِالمَساءِ،
فَتَكْتَمِلُ الدّائِرَةُ،
ويَبْدَأُ التّاريخُ:
مِنْ فِلَسْطينَ مِنْ جَديدٍ...
***
د. عبد الرحيم جاموس
الرياض / الإثنين
6/10/2025 م

قراءة أدبية وتحليل الشاعر والناقد والأديب الاستاذ الدكتور عادل جوده لنص "مساءُ الصُّمودِ بلا حُدودٍ" للدكتور عبد الرحيم جاموس
يمثل هذا النص الشعري لوحةً تعبيريةً مكثفةً تخلق عالماً من الرمز والدلالة، يحمل هموم القضية الفلسطينية ويتجاوزها إلى أبعاد إنسانية كونية. وفيما يلي تحليل لأبرز ملامحه:
أولاً: البناء الفني واللغة:
١- الانزياح اللغوي:
يستخدم الشاعر الانزياح بمهارة لخلق عالم شعري فريد، مثل: "نَفضةُ حَجَرٍ يَستفيقُ على نَبضِهِ" حيث يُحيل الحجر إلى كائن حي واعٍ، و "يُضِيءُ ما سَقَطَ مِنَّا" حيث يتحول الفعل "يضيء" من حسي إلى معنوي ليكشف عن الخسائر المعنوية.
٢- المجاز:
ينهض النص على شبكة مجازية متماسكة، فالفجر ليس وقتاً بل "وطنًا لا ينام"، والقدس ليست مكاناً بل "نُواةُ الضَّوْءِ"، والجوع يتحول إلى "نَشيدٍ". هذه الاستعارات تحول المعاناة المادية إلى قيم روحية ومقاومة جمالية.
٣- الإيقاع:
يعتمد النص على إيقاع داخلي نثري حر، لكنه محمل بتوازنات صوتية (مثل التكرار: "كم يلزم من دم... ليولد الفجر") وجمل موزونة تخلق نغماً موحياً يتناسب مع جدية الموضوع.
ثانياً: المضامين والرموز:
١- صمود الوعي:
النص ليس مجرد حديث عن الصمود المادي، بل هو صمود الوعي والفكرة. يبدأ بـ "في البَدءِ كانتِ الفِكرةُ..." ليؤسس لفلسفة المقاومة كفعل إرادي واعي قبل أن تكون رد فعل.
٢- صراع الوجود:
يصور الصراع ليس على الأرض فحسب، بل على الهوية والذاكرة والمعنى. "نَحْنُ نَرْتَشِفُ العِزَّ... مِنْ كَفِّ الفَقْرِ" هي مقولة وجودية ترفض منطق المساومة والاستسلام، وتؤكد أن الكرامة هي الثروة الحقيقية حتى في قلب الفقر.
٣- أسطرة الواقع:
يحول الشاعر عناصر الواقع المأساوي إلى رموز أسطورية تخلق سردية بديلة:
• الطفل والمفتاح:
رمز الأمل والعهد والعودة. "يَحْمِلُ مِفْتاحَ بَيْتِهِ كَأَنَّهُ الشَّمْسُ" تجعل من فعل العودة مشرقاً وأبدياً.
• التراب:
ليس تراباً عادياً، بل هو "قَنْديلُ نَبِيٍّ"، حامل للقداسة والشهادة، وهو من "يُعلّم الحصى" أن يكون ذاكرة، محولاً الجغرافيا إلى تاريخ حي.
• الحلم \ الواقع:
"الطَّريقُ طَويلٌ... وَلَكِنَّ الحُلْمَ لا يَشيخُ" هي مقولة تجدد الإيمان بأن زمن الظلم محدود وزمن الحق أبدي.
ثالثاً: الأبعاد الفلسفية:
١- الوطن المتخيل والواقعي: يقدم الشاعر تصوراً للوطن ليس كمساحة جغرافية على الخرائط فقط، بل ككينونة روحية وكيان نفسي موجود في داخل الإنسان:
"إلى البِلادِ الَّتي فينا ... قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ على الخَرائِطِ".
٢- رفض ثقافة الاستسلام: هجوم الشاعر على "المَعوناتِ المَسْمُومَةَ" ليس رفضاً للمساعدة، بل رفضاً لشروطها المذلة التي تقوض الإرادة وتغذي "الخيانة" الداخلية.
٣- الزمن الدائري المقدس: النهاية العميقة للنص "حِينَ يَلْتَقِي ...
الحُرُّ بِالأَرْضِ، والفَجْرُ بِالمَساءِ، فَتَكْتَمِلُ الدّائِرَةُ، ويَبْدَأُ التّاريخُ:
مِنْ فِلَسْطينَ مِنْ جَديدٍ" تقدم رؤية مفادها أن فلسطين هي نقطة الالتقاء بين الأرض والسماء، بين المادة والروح، وبأن تحريرها ليس نهاية الصراع بل بداية تاريخ جديد للإنسانية تاريخ يعيد الاتزان المفقود إلى العالم.
/// الخاتمة:
"مساء الصمود بلا حدود" هو أكثر من قصيدة إنه بيان وجودي وميثاق أخلاقي.
إنه نص يرفض أن تكون فلسطين مجرد "قضية" ويصر على أنها "نُواةُ ضَوْءٍ"
ومركز لإشعاع قيمي.
لغة النص برغم قسوة الموضوع ليست لغة يأس أو انكسار بل هي لغة صلبة مشبعة بالجمال تخلق
من الألم نشيداً
ومن التراب ذاكرة
ومن الحلم يقيناً.
إنه يؤسس لـ "صمود" لا يعتمد على القوة فقط بل على قوة الحقيقة والجمال والمعنى.
تحياتي واحترامي
ا. د. عادل جوده
..................................................

مساءُ الصمود بلا حدود: بين جمالية الوجع وفلسفة البقاء
بقلم: رانية مرجية

أولاً: في عتبة العنوان – مساءٌ يتحدى الغروب
العنوان وحده يفتح باب التأويل على مصراعيه:
“مساء الصمود بلا حدود”
فالمساء، في الوعي الجمعي، لحظة انطفاءٍ أو سكونٍ، لكنه عند الشاعر نقطة انبعاثٍ جديدة.
إنه مساءٌ يُضيء لا يخبو، ينهض من الجرح لا يسكن فيه.
يُعيد الشاعر تعريف الزمن الفلسطيني: فالمساء لا يعني النهاية، بل هو استراحة الضوء قبل عودته.
بهذا الاختيار اللغوي البسيط والعميق في آن، يضع د. عبد الرحيم جاموس حجر الأساس لقصيدةٍ هي احتجاج على الغروب، وميلادٌ مستمرٌّ من رحم الألم.

ثانيًا: الافتتاح – الفكرة كفعل مقاومة
“في البدء كانت الفكرة…”
هذه العبارة لا تأتي مصادفة، فهي استعارة كونية محمّلة بظلال الخَلق.
لكن الشاعر يعيد توطينها في السياق الفلسطيني: فـ”الفكرة” هنا ليست إلهية فقط، بل هي الشرارة الأولى للوعي المقاوم.
حين يقول “نفضة حجر يستفيق على نبضه”،
فهو يحوّل الحجر إلى كائنٍ حيّ، إلى نبضٍ واعٍ بذاته،
تمامًا كما تحوّلت الانتفاضة الأولى إلى ضميرٍ جمعيٍّ لا يُقهر.
إنها الفكرة التي ترى أن المقاومة ليست ردة فعل، بل وعي متجذر، وذاكرة تعرف اتجاهها.
هكذا تتحول القصيدة من خطابٍ شعري إلى بيانٍ فلسفيٍّ في معنى الوجود الفلسطيني.

ثالثًا: الجرح كمصدرٍ للنور
“مساء يخرج من جرح قديم، يضيء ما سقط منا في الطريق إلى المعنى…”
يُحوّل الشاعر الجرح من حالةٍ من الألم إلى منجم للمعنى.
فالجرح عنده ليس فقدانًا، بل ذاكرة نور، تُضيء الطريق إلى الذات.
هذا التحول من الوجع إلى الإدراك هو ما يمنح القصيدة بعدها الصوفيّ الوجوديّ.
يشبه الجرح في هذا النص ما وصفه المتصوفة بـ”الشوق الإلهي” —
ألمٌ يفضي إلى معرفة، ودمٌ يُولّد فجرًا.
وحين يقول:
“كأن التراب يتَهجّى أسماؤنا على لسان الريح”
فهو يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض على نحوٍ ميتافيزيقيّ:
الأرض تعرف أبناءها وتنطقهم، كأنها أمٌّ تتكلم بلسان الريح لتعيد أبناءها إلى ذاكرتهم الأولى.

رابعًا: الكرامة قبل الخبز – جدلية الجوع والشرف
“لسنا جياعًا، نحن الذين كسروا رغيف الصبر على ركبة الحصار…”
في هذا المقطع، يبلغ النص ذروة النقاء الأخلاقي.
يتحول الجوع من عجزٍ إلى وسيلة للكرامة.
فالفلسطيني في نصّ جاموس لا يأكل ليعيش، بل يعيش ليصون معنى الحياة.
إنه موقفٌ فلسفيٌّ شبيه بما قاله سارتر: “الحرية هي ما نفعله بما فُرض علينا.”
فالشاعر لا ينكر الجوع، بل يحوّله إلى طاقةٍ رمزيةٍ تُغذّي الوعي لا الجسد.
بهذا المعنى، يصبح الجوع فعلًا من أفعال النقاء، ويغدو الخبز، في ظل الذلّ، خيانةً للكرامة.

خامسًا: القدس – من الجغرافيا إلى الميتافيزيقيا
“القدس ليست قبلة النظر، هي نواة الضوء وسرّ النشيد…”
هنا تنفلت القدس من حدودها المكانية، لتصبح مفهومًا كونيًا للقداسة والوعي.
فهي ليست مدينة تُزار، بل تجسيد للروح الأولى، هي المبدأ الذي يُشعل النشيد في التراب والذاكرة.
في هذا التحول من “قبلة النظر” إلى “نواة الضوء”،
ينقل الشاعر القدس من الرمز السياسي إلى الرمز الوجودي.
هي النور الداخلي الذي يربط الإنسان بالسماء —
تمامًا كما قال:
“ميثاق العهد بين الإنسان وسمائه.”
هنا يذوب المكان في المعنى، ويصبح التراب الفلسطيني نقطة التقاء الأرض بالسماء، والزمن بالخلود.

سادسًا: موقف من العالم – ضد المعونات المسمومة
“فلتذهب المعونات المسمومة إلى الجحيم، فالمذلة لا تطعم سوى الخيانة…”
هذا المقطع ليس مجرد احتجاجٍ سياسي، بل صرخة أخلاقية في وجه النفاق الدولي.
إنه إعلان صريح أن فلسطين لا تُباع ولا تُشترى، وأن الكرامة أثمن من المساعدات، لأن الذلّ، مهما تلون، هو شكل آخر من الاحتلال.
هنا تتجلى نبرة الأنبياء والشهداء معًا؛
لغة جاموس ليست سياسية فحسب، بل نبوئية،
تدين العالم الذي يتاجر بالإنسان الفلسطيني،
وتقدّس الإنسان الذي يختار الجوع على أن يأكل بثمن الوطن.

سابعًا: الطفولة والمفتاح – رمزية الأمل الأبدي
“يرونه بعيدًا، لكننا نلمسه في خفقة طفلٍ يحمل مفتاح بيته كأنه الشمس…”
يا لها من صورة!
الطفل والمفتاح والشمس – ثلاثية الضوء والذاكرة والوراثة.
الطفل هنا ليس رمز المستقبل فقط، بل وريث الحلم وامتداد الفجر المؤجل.
يحمل المفتاح كأنه الشمس،
أي يحمل الحقيقة، الضوء، واليقين بأن العودة ليست احتمالًا بل وعدًا.
وفي صوت الأم التي “تغني للغائبين”،
يتحول الفقد إلى طقس حبٍّ،
ويغدو الانتظار نفسه فعلاً من أفعال الإيمان.

ثامنًا: في الختام – اكتمال الدائرة وبداية التاريخ
“حين يلتقي الحر بالأرض، والفجر بالمساء، فتكتمل الدائرة، ويبدأ التاريخ من فلسطين من جديد…”
بهذا الختام الملحميّ، يغلق الشاعر الدائرة التي فتحها في البداية.
من “الفكرة” إلى “الفجر”،
من “الجرح” إلى “الاكتمال”،
يؤسس د. جاموس لأسطورة الخلق الفلسطيني الجديد.
إنها ليست قصيدة عن الماضي، بل قصيدة عن لحظة الميلاد القادمة،
حين يتحقق اللقاء بين الحرية والكرامة، وحين تُكتب فلسطين من جديد، لا على الخرائط، بل في الوعي الإنسانيّ الخالص.

تاسعًا: الخلاصة – شعر الفعل لا القول
“مساء الصمود بلا حدود” ليس نصًا يُقرأ بعين المتلقي، بل يُعاش في الوجدان.
إنه مرآة الوجع الفلسطيني، ولكن أيضًا معراج الأمل الإنساني.
يكتب د. عبد الرحيم جاموس من موقع الشاهد والشهيد معًا،
يحوّل اللغة إلى مئذنة، والقصيدة إلى وطنٍ من حروفٍ لا يزول.
إنها ليست قصيدة في الصمود، بل الصمود نفسه وقد كتب ذاته شعرًا.
ا. رانية فؤاد مرجية

اخر الأخبار