(55) ساعة
تاريخ النشر : 2022-08-12 08:36

خمس وخمسون ساعة انصبت كالحميم على أهل غزة، انسفكت فيها الدماء، وانسحّت الأرواح، وانسلخت الأبدان، ولا غرابة في هذا فالوحشية والسادية ديدن الاحتلال، ولكنّه في هذا العدوان زاد عليها وقاحًة واستعلاءً وغطرسًة مستغلًا حالة الاندماج الاسرائيلي العربي في المنطقة، وتأثيرها المباشر على حركتي حماس والجهاد، فعمل على تحقيق بعضًا من الأهداف الجانبية مثل استعادة قوة الردع، وهيبة الدولة التي افتقدها، والامعان في بث الفرقة وتأجيج الاختلافات الفصائلية البينية، من خلال تكريس حالة الانفصال السياسي والجغرافي والاداري في الضفة الغربية وغزة والقدس، وبتعبير آخر الحفاظ على حالة الاستفراد بالكنتونات الفلسطينية .
خمس وخمسون ساعة هي الزمن الذي استغرقه العدوان على غزة، خمس وخمسون ساعة من الجنون والعبث السياسي، وازدواجية المعايير في محور المقاومة أو محور القدس كما يحلو للبعض تسميته، فالمتابع لردود أفعال أطراف المحور وقع في دهشة واستغراب شديدين من أدوات دعم أحد أطرافه في معركة غير متكافئة بكل عناصرها مع آلة الحرب الصهيونية، حيث اكتفت إيران بتعظيم الحالة الدعائية لحركة الجهاد، وأنّ المنظمة تَعد للضربة القاصمة للاحتلال، وكذلك اكتفى حزب الله بالمتابعة والتواصل والمراقبة، أما المتحدث باسم الحوثي فلم يسعفه الوقت لتعداد شروط مشاركته في المعركة وعلى رأسها أنْ تكون المعركة محسوم فيها النصر، وفي سياق مواقف مكونات محور القدس من العدوان كان موقف حركة حماس الأكثر اهتمامًا عند المتابعين والمحللين حيث نقلت الحركة نفسها نقلة نوعية من تقدم صفوف المقاومين، إلى الوسيط لإتمام التهدئة بين طرفي المواجهة، الشيء الذي استدعى وقوف الكثيرين عند هذا التحول الدراماتيكي، ومما زاد الأمر دهشة الشكر الذي صدر عن حكومة الاحتلال، والإدارة الأميركية الموجه لحركة حماس على موقفها السياسي والعسكري من العدوان، والذي لم يلق أي تعليق من الحركة.
على الرغم من البراغماتية التي تتصف بها حركات الإسلام السياسي كجزء أصيل في تحديد مواقفها وسياساتها، إلا أنّ مجمل التداعيات الناجمة عن العدوان تشي أنّ هناك تحولًا مهمًا في العلاقات بين دول المنطقة العربية، أو ما اصطلح على تسميتها بدول الاعتدال العربي مع حركة حماس، وهذا يشير إلى أنّ هناك قبولًا لحركة حماس كسلطة سياسية، وإذا ما صحت هذه القراءة فإننا سنكون أمام أمرين الأول التغيير الذي طرأ على أدبيات الحركة وأدى إلى قبولها كسلطة سياسية، هل هو تغييرًا مرحليًا أم استراتيجيًا، والثاني النتائج المترتبة على هذا القبول الاقليمي لحماس، وفي مقدمتها الترسيخ الحقيقي للانقسام، وبمعنى أشمل فرض الرؤية الأميركية الإسرائيلية لحل القضية الفلسطينية على أساس الدمج الاقتصادي ضمن نطاق الشراكة بين دول المنطقة، وتحسين الأحوال المعيشية للسكان حسب التعبير الاسرائيلي، وعدم التعرض للحل السياسي، وهذا ببساطة يعني العودة بالقضية الفلسطينية للنكبة الأولى عام 1948 بمفهومها الإنساني تحت شعار الطحين والسردين، مع تحسين المفردات اللغوية عام 2022.
باختصار نحن كشعب لا يهمنا ألوان الرايات، ولا نُقَيِّم النجاحات والإخفاقات وفق المسميات الحزبية، أو مرجعيتها الفكريّة أو مفاهيمها، أو خططها المرحليّة والاستراتيجية، سواءً كانت كاملة أو منقوصة في فهمها لطبيعة الصراع مع الاحتلال، وإنّما وفق التقدم نحو حسم الصراع، وكما هي الحقيقة الساطعة فإنّ أيًا من برامج الفصائل سواءً تلك التي انتهجت المقاومة كسبيل للتحرير، أو التي تبنت المفاوضات سبيلًا لذلك، فكلاهما لم يحسم النتائج، ولم يُراكم خطوات ايجابية لتحسين المواقف، ولا لتحرير الأرض، ولا لتحقيق السلام وفق الشرعية الدولية.
وفي نهاية المطاف استطاعت اسرائيل في خمسٍ وخمسين ساعة استعادة زمام المبادرة، وفرضت رؤيتها على فريقي المفاوضات والمقاومة، ورسخت أركان الانقسام، وأفرغت مضمون وحدة الساحات من معناها، أما فصائلنا وقادتنا استغرقوا أنفسهم خلال خمسة عشر عامًا في الجدل ومحاولة اقصاء الآخر، وجندوا لذلك خلايا الذباب الالكتروني التي لم تألُ جهدًا في إغراق الشعب في بحر لجي من التخوين، وتبرير القتل، وتحبيب الفقر إلى الناس، وتزيين العوز، وأداروا دفة السفينة بعيدًا عن أهدافها .
الشعب الفلسطيني ليس بحاجة لخمس وخمسين ساعة لإعادة الدفة لمسارها، بل يحتاج لسويعات قليلة يقضيها أمام صناديق الاقتراع للخروج من لي عنق الحقيقة، ومن النفق الذي سجى ليله ألوان الرايات، فإسرائيل بلد مصنوع ماركة غربية ستبقى تحت طائل تهديد الزمن، والجغرافيا، والديموغرافيا، مهما فعلت من الأفاعيل، وستبقى أرض فلسطين العربية في مكانها، وسيزداد الصراع ويكبر وسيحررها العرب شاء من شاء وأبى من أبى .