تكمن فلسفة أو فذلكة خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب بغزة في التمييز والفصل، ولكن مع خلق جسر، ما بين المرحلة الأولى المتمثلة بوقف إطلاق النار ونهاية الحرب ولو نظرياً. والثانية أو النهائية والدائمة، المتعلقة مباشرة بما يسمى سيناريو اليوم التالي للحرب، والانسحاب التام أو شبه التام لجيش الاحتلال، وحلّ معضلات غزة الثلاث التي اختصرها وزير الخارجية الفرنسي الخميس الماضي بالحوكمة والأمن وإعادة الإعمار، وفق منظومة مركبة تتداخل فيها العوامل الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية.
عدم العودة إلى ما قبل 7أكتوبر
بداية، فهم ترامب أن لا وقف لإطلاق النار، وبالتالي العمل على إرساء أسس وقواعد نهاية الحرب بشكل نهائي دون إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ضمن عملية تبادل لإنهاء المقتلة والإبادة، وإدخال بل إغراق غزة بالمساعدات الإنسانية لإنهاء المجاعة والشروع بعملية تعافي سريعة تطال كافة الجوانب الإنسانية والحياتية الطارئة، المتعلقة بالمياه والكهرباء وتأهيل المستشفيات والبنى التحتية. هذا حصل بناء على طلب الدول العربية والإسلامية، إثر اجتماعات واتصالات ثنائية وجماعية كما رأينا في لقاء نيويورك الأخير، نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، مع فهم ترامب أنه من المستحيل نجاح الخطة دونهم بمرحلتيها الأولى والثانية، ولكنه مع ذلك بنى مرحلتها الأولى على الأقل وفق الوقائع الميدانية على الأرض التي تميل لصالح إسرائيل، ويعتقد الرئيس الأميركي إنها انتصرت عسكرياً. ومن هنا جاءت أولوية استعادة إسرائيل كل أسراها الأحياء والأموات خلال ساعات قليلة من وقف إطلاق النار الدائم، وإعادة انتشار جيش الاحتلال مرحلياً على أكثر من نصف مساحة القطاع، خصوصاً بالمناطق الحدودية والحيوية شمالاً، بيت لاهيا وبيت حانون، وشرقاً، ريف خان يونس، وجنوباً حتى رفح ومحور فيلادلفيا، وذلك لضمان عدم البقاء الدائم في مربع المرحلة الأولى والتوافق على شكل اليوم التالي، وحلّ مشاكل الحوكمة أي إدارة القطاع وإشاعة الأمن والاستقرار في ربوعه، استعداداً لعملية إعادة الإعمار الضخمة التي تحتاج 80 مليار دولار - 50 تشرين أول/ أكتوبر العام الماضي – ومساحة زمنية من خمس إلى سبع سنوات على الأقل، شرط عدم العودة إلى واقع ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حسب تصريح بل تحذير وزير الخارجية التركية هاكان فيدان أول أمس السبت.
فك عزلة إسرائيل
مرتبط بما سبق كله، وفيما يخص المرحلة الثانية المعقدة والمتداخلة، وتعبيراً عن فهم ترامب أن إسرائيل ربحت عسكرياً وخسرت سياسياً، وأنه معني بمساعي وجهود تخليصها من العزلة الدولية الخانقة التي بدأت بالتمدد إلى القطيعة، والعقوبات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والفنية والرياضية، واستحالة فعل وتخفيف هزيمتها أو جعلها بأقل الخسائر دون انخراط عربي وإسلامي واسع، خصوصاً من الدول الثماني المؤثرة والمعنية مباشرة والتي شارك زعماؤها وممثلوها باجتماع بنيويورك، وكانت لهم مطالب واضحة تتمثل أولاً بوقف الإبادة والمقتلة والتجويع ومن ثم الاستعداد للتنسيق والتعاون في المرحلة الثانية، وسيناريو اليوم التالي وصولاً إلى التعاطي مع الجذر السياسي للقضية الفلسطينية لمنع أي عودة إلى الحرب فيما بعد.
بالعموم وحسب مصادر مطلعة فقد أبدت الدول العربية والإسلامية استعدادها للانخراط الفوري في عملية التعافي السريعة، وإدخال وإغراق غزة بالمساعدات الإنسانية ومستلزمات الإيواء العاجل، والتعاون مع المنظمات الدولية في إعادة تأهيل المؤسسات والبنى التحتية الحيوية بقطاعات المياه والكهرباء والصحة والصرف الصحي، ثم التعاون والتنسيق من خلال بعثة المراقبة للتأكد من تنفيذ الاتفاق ومنع خرقه وضمان الانتقال إلى المرحلة الثانية الأصعب والاستراتيجية منه.
وعليه يمكن الاستنتاج إنه بين التفوق العسكري الإسرائيلي والعجز عن تسييله سياسياً ودبلوماسياً والانخراط العربي والإسلامي المؤثر أبصرت خطة ترامب النور وتم تمرير المرحلة الأولى منها بنجاح على اعتبار أن صفقة التبادل ستسير وفق المخطط لها حتى صباح الاثنين على أبعد تقدير.
مرحلة ثانية معقدة
وفيما يخص المرحلة الثانية المعقدة والتي يتداخل فيها الجانب الدبلوماسي والسياسي بتجلياته وأبعاده المؤسساتية والمنظوماتية والأمنية والعسكرية المتضمنة نزع سلاح حماس، وتشكيل لجنة فلسطينية مستقلة من تكنوقراط غير منتمين حزبياً لإدارة غزة بإشراف مجلس السلام، وحسب مصادر مطلعة أيضاً ثمة سعي عربي إسلامي لتحسينه وواقعية في التعاطي مع تعيين ترامب نفسه كرئيس للمجلس وبلير كمدير تنفيذي له، مع تفويض أممي للمجلس كما لنشر قوات أمن عربية وإسلامية لدعم جهاز شرطة فلسطيني جاري تدريب أعضائه في مصر والأردن بعد ترشيحهم من قيادة السلطة برام الله لإزالة الأسباب والذرائع أمام عودة إسرائيل للحرب، وصولاً بعد فترة انتقالية يسعى العرب والمسلمين حسب المصادر لجعلها غير مطولة-سنة لثلاث سنوات- إلى المسار والأفق السياسي لحل الدولتين، وتكريس دور السلطة كقيادة شرعية ورسمية في غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام ولكن بعد إصلاحها، بظل اجماع على عدم جدارة القيادة الحالية لمواكبة الجهود العربية والاسلامية والدولية الجبارة لإنهاء الحرب والتوصل إلى حل عادل للقضية وفق الشرعية الدولية وقراراتها جرى تكريسه في إعلان نيويورك الأخير وتسونامي الاعتراف بالدولة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
في الأخير بتركيز واختصار أقله من وجهة النظر العربية والإسلامية وبعد التوافق كيف يمكن شق الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل والمضي قدماً أولاً عبر وقف النار الدائم، وإغراق غزة بالمساعدات ومعدات ومستلزمات التعافي المبكر والإيواء العاجل والعمل بهدوء على بقية الملفات دون ضغوط المقتلة والابادة والمجاعة لنزع وتسليم أو تجميد سلاح حماس والفصائل ودعم إدارة اللجنة والشرطة الفلسطينية لغزة وتخفيف الوصاية الخارجية عليها عبر شرعية دولية لها وللخطة بشكل عام من الأمم المتحدة بما في ذلك قوة الاستقرار العربية الإسلامية الدولية لدفع إسرائيل للانسحاب التام ومنعها من استئناف الحرب أو تعميم نموذج جنوب لبنان على غزة كلها، وطمأنة وحماية الفلسطينيين وتشجيعهم على المضي قدماً في التعافي وإعادة الاعمار بظل قناعة متجذرة باستحالة استبعاد حماس والفصائل من المشهد السياسي لكن بدون السلاح والحكم كما لا يمكن استبعاد السلطة كقيادة شرعية أو رسمية من المشهد الفلسطيني لكن شرط قيامها بإصلاحات جدية وجذرية خارج عمليات شد الوجه ومساحيق التجميل وقصة الانتخابات الدعائية.
عن المدن