لندن: كشفت مجلة The New Statesman البريطانية في تقرير مطوّل بقلم فريدي هايوارد أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ومستشاره السابق جوناثان باول لعبا دورًا محوريًا خلف الكواليس في بلورة اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، من خلال علاقات شخصية مباشرة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، متجاوزين المؤسسات الدبلوماسية التقليدية مثل الأمم المتحدة ووزارتي الخارجية البريطانية والأمريكية.
صفقة سلام على الطريقة الترامبية
يقول التقرير إن بلير وكوشنر التقيا ترامب في البيت الأبيض في 27 أغسطس لإقناعه بأن وقف إطلاق النار في غزة ممكن عبر خطة سلام تجمع بين مقترحات فرنسية وسعودية وعربية.
وبعد ستة أسابيع، أُعلن الاتفاق بصفته “انتصارًا تاريخيًا” للرئيس ترامب، ورفعت في شوارع القدس لوحات تمجده كـ“كورش العظيم” — الملك الفارسي الذي حرر اليهود من بابل.
لكن وراء المشهد الرمزي، يرى الكاتب أن الاتفاق كشف عن نظام عالمي جديد تقوده الصفقات الشخصية ورجال المال لا المؤسسات الدولية. ترامب، بحسب التقرير، يتصرّف كـ“إمبراطور عالمي” تحركه الولاءات والمصالح لا المبادئ، فيما أصبحت الأمم المتحدة مجرد “خلفية رمادية” لعروضه السياسية.
بريطانيون في خدمة الصفقة
يشير التقرير إلى أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر كلف مستشاره للأمن القومي جوناثان باول بمتابعة ملف غزة خشية ضياع “فرصة السلام الأخيرة”.
وباول، الذي سبق أن لعب دورًا حاسمًا في اتفاق الجمعة العظيمة بأيرلندا عام 1998، أعاد تفعيل شبكته القديمة مع بلير وكوشنر، ونجح في دمج ثلاث مبادرات سلام في خطة واحدة، بتعاون وثيق مع المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف.
ويتحدث التقرير عن “دبلوماسية الأرائك” التي مارسها باول، أي الاعتماد على المحادثات الشخصية بعيدًا عن القنوات الرسمية، وهو ما أثار انزعاج مؤسسات الدولة البريطانية التي رأت في ذلك تجاوزًا للبيروقراطية الحكومية.
بلير: عودة إلى مركز النفوذ
أما توني بلير فقد استثمر سنوات ما بعد خروجه من رئاسة الحكومة في بناء شبكة علاقات واسعة عبر معهد توني بلير للتغيير العالمي (TBI)، الممول جزئيًا من الملياردير الأمريكي لاري إليسون.
ووفق التقرير، يمتلك المعهد مكاتب نشطة في أبوظبي والرياض، ويجري استطلاعات ميدانية في غزة أظهرت أن “أقل من 4% من السكان يريدون استمرار حكم حماس”، وهي البيانات التي استخدمها بلير لإقناع ترامب بأن نزع سلاح الحركة لا يتطلب تهجيرًا جماعيًا.
تحدثت أوساط دبلوماسية عن احتمال ترؤس بلير لـ“مجلس السلام” المقترح لإدارة غزة بعد الحرب، رغم أن مصادر استخباراتية أمريكية ترى أن الفكرة قد لا تتحقق عمليًا إذا عاد الجيش الإسرائيلي للتدخل.
خصخصة السياسة الخارجية
المقال يصوّر تحولًا عميقًا في النظام الدولي، إذ تراجع دور وزارتي الخارجية في واشنطن ولندن، بينما أصبحت الصفقات الشخصية عبر واتساب والطائرات الخاصة هي القناة الفعلية للدبلوماسية.
فترامب، كما يصفه التقرير، “يثق بالأفراد الذين يمكنه قراءتهم لا بالمؤسسات التي لا يستطيع السيطرة عليها”.
ولم يُذكر اسم رئيس الوزراء البريطاني نفسه، كير ستارمر، في أي من مراحل المفاوضات، ما يعكس تراجع دور الدولة أمام نفوذ الأفراد.
من النظام الليبرالي إلى إمبراطورية المال
يرى الكاتب أن اتفاق غزة ليس فقط محطة سياسية، بل إعلان رسمي لبزوغ “عصر ترامب”، حيث تحلّ الصفقات محل القواعد، ويهيمن رجال الأعمال على القرار الدولي.
ويستشهد بأمثلة مثل إيلون ماسك الذي يملك منصة X ويزوّد أوكرانيا بالأقمار الصناعية، وبيل غيتس الذي ينافس منظمة الصحة العالمية في النفوذ، ويفغيني بريغوجين الذي أنشأ جيشًا روسيًا خاصًا قبل مقتله.
وفي الشرق الأوسط، تحتاج الدول الخليجية إلى استقرار يسمح لها بمواصلة مشاريعها الضخمة مثل نيوم وكأس العالم، ما جعلها أكثر استعدادًا لدعم “صفقة سلام” تُبقي الوضع الإقليمي تحت السيطرة.
سلام على مقاس الإمبراطور
يختتم التقرير بأن وقف النار في غزة أوقف المجازر وأعاد بعض الاستقرار، لكنه رسّخ واقعًا جديدًا:
رئيس أمريكي يحكم بمنطق الصفقات الشخصية،
وبريطانيون سابقون يستعيدون مجدهم من خلال “دبلوماسية غير رسمية”،
وعالم يتخلى عن القانون الدولي لصالح النفوذ والمال والاتصال المباشر.
“هذا ليس مجرد وقف لإطلاق النار… إنه ترسيم لنظام عالمي جديد، حيث تُدار السياسة من الصالونات الخاصة لا من قاعات الأمم المتحدة.”