جمهورية النزاهة الوهمية... الفاسد يعظ الناس عن الفضيلة

تابعنا على:   17:51 2025-10-08

بشار مرشد

أمد/ في بلادٍ لا تُزرع فيها شجرةٌ إلا بعد موافقة اللجنة العليا للشفافية، يخرج الفاسد على التلفاز ليحدّثك عن الأخلاق، فيما الرشوة تُعَدّ على الطاولة أمامه مثل ضيافة القهوة. يبتسم بثقة رجلٍ يعرف أنه فوق القانون، أو — بالأحرى — أنه هو القانون.

هنا لا يُخفى الفساد، بل يُبثّ على الهواء مباشرة، مغطّى بخطابٍ وطنيٍّ دَسِم، مزينٍ بشعارات "الولاء أولًا" و"النزاهة نهجنا". المسؤول لا يسرق، بل "يُدير الموارد بمرونة"، والاختلاس يُسمّى "إعادة توجيه"، حتى الرشوة باتت تُسمّى "عرفانًا بالجميل".

الفساد في تلك البلاد لا يحتاج مؤامرة ليعيش؛ يكفيه ضعف الرقابة وكثرة التصفيق. إنه كائنٌ ذكيٌّ يعيش في العتمة، لكنه يتنفس المديح كما تتنفس الأشجار الضوء. وإن حاصرته، يُغيّر جلده فورًا، يصبح "مُصلحًا وطنيًا" يتحدث عن محاربة الفساد وكأنه ضحيته الأبرز.

أما المزارع الإدارية، فحدّث ولا حرج: كل مؤسسة مزرعة، والمدير إقطاعيٌّ يوزّع الوظائف كما يوزّع المرعى على أنعامه. ثم يضع الأبناء والأقارب في المكاتب العليا، والأصدقاء في اللجان، والمعترضون في بيوتهم بتوصية "الصالح العام". الإقصاء هنا ليس عقوبة، بل نوع من التقاعد الإجباري القسري لمن لم يتقن فنّ التصفيق أو الصمت عمّا يرى.

وما دام القانون يُطبَّق على الضعيف فقط، فإن الفاسد لا يخاف شيئًا. أقصى ما قد يصيبه هو "الإقصاء المشرف" مع سيارةٍ جديدةٍ ورصيدٍ بنكيٍّ وثراءٍ فاحش، ويخرج مبتسمًا أمام الكاميرا. ثم يرحل بما نهب، وقد ترك خلفه جيشًا من الورثة — أبناءً وأقارب وموظفين في المراتب العليا — يواصلون المهمة كأن شيئًا لم يكن.

الموظف العادي؟ ذاك المخلوق المنقرض الذي ما زال يظن أن الراتب يُدفع مقابل العمل. هو الوحيد الذي يعرف أسعار السوق، ويدفع الفواتير من جيبه، بينما الفاسد لا يعرف سوى "نفقات الضيافة" التي تُغطي كل شيء: الطعام، والسفر، وحتى الهدايا للأنسباء. المال عنده كالهواء؛ لا يُدفع ثمنه.

الأدهى أن أكثر من يتحدثون عن الأخلاق هم أكثرهم تورطًا في قذارتها. يتحدثون عن النزاهة بملء أفواههم لأنهم تعلموا أن أجمل طريقة لإخفاء الرائحة هي رشّ المزيد من العطر. الناس تصفّق لأن التصفيق لا يحتاج ميزانية، والكلّ يعرف أن المسرحية ستُعاد بعد الاستراحة.

وفي النهاية، لا يسقط الفساد لأنه انكشف — فالجميع يعرف القصة من البداية — بل لأنه أكل نفسه. حين تجفّ الغنيمة، يبدأ التقاتل بين الشركاء. وعند أول أزمة مالية، يظهر الفاسد الأكبر بملامح القديس، ليقول بوقار: "نحتاج إلى الإصلاح ومحاسبة المقصّرين"، ثم تُشكَّل لجنة جديدة من تلاميذه… ويُعاد البثّ من الحلقة الأولى.

التوصية (صريحة ومباشرة):
الفساد لا يُحارَب بالشعارات، بل بتفكيك بيئته التي تحميه. يبدأ الإصلاح حين تُكسر الحصانة عن الكراسي، ويُرفع الغطاء عن المال العام، وتُستعاد الأموال المنهوبة ليُعاد حقُّها إلى الخزينة العامة. كل مالٍ نُهِب يجب أن يُسترد كتعويض للمال العام، وكل وظيفةٍ بُنيت على القرابة والولاء — بعيدًا عن معايير الاستحقاق والإجراءات القانونية المتبعة — يجب اقتلاعها وإلغاؤها، وإعادة شغلها عبر مسابقات شفافة ومعلنة.
النزاهة لا تُعلَّق على الجدران، بل تُزرع في النفوس بالتربية والقدوة والمحاسبة الحقيقية. حين يصبح الفاسد خائفًا من كشفه لا فخورًا بوقاحته، حين تُستعاد أموال الشعب وتُستخدم لخدمة الشعب فعلاً، يمكننا أن نقول إن جمهورية النزاهة بدأت تتحول من وهمٍ إلى واقع.

اخر الأخبار