
أبناء الزمن .. تقويم إنساني للتاريخ البشري
إدواردو غاليانو يعيد كتابة التاريخ من أسفل الذاكرة لا من قمم السلطة

د. عبد الرحيم جاموس
أمد/ التاريخ بوصفه مرآة الإنسان
حين يفتح القارئ كتاب «أبناء الزمن – تقويم للتاريخ البشري»، الصادر عن دار خطوط ظلال للنشر والتوزيع – عمّان 2021 بترجمة دقيقة لأسامة إسبر، يجد نفسه أمام تجربة مختلفة تمامًا عمّا ألفه في كتب التاريخ أو الفلسفة.
فالكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو لا يسرد الأحداث وفق تسلسلٍ زمنيّ أو سياسيّ، بل يقدّم ما يشبه رزنامة الوعي الإنساني، تقويمًا روحيًا لأيام البشر، تُكتب فيه الوقائع بمداد الذاكرة والوجدان لا بالحبر الرسمي.
غاليانو لا يروي ما حدث فحسب، بل يسائل: كيف حدث؟ ولماذا؟ ولمن كُتب التاريخ؟
إنه مؤرخ المقهورين، وشاهد على صراع الإنسان الدائم بين الحلم والاستعباد، بين الذاكرة والنسيان.
فسيفساء الحكايات
يقع الكتاب في 414 صفحة، تتوزع على مقاطع قصيرة تشبه اليوميات أو ومضات الضوء في عتمة التاريخ.
لكل صفحة نبضٌ مختلف، ولكل يومٍ حكايته التي تكشف وجهًا من وجوه الإنسانية المقهورة أو المقاومة.
لا يعتمد غاليانو التسلسل التقليدي، بل يكتب كما لو كان يرمم ذاكرة الكوكب، قطعةً بعد أخرى، ليصوغ منها لوحةً فسيفسائية تعيد للتاريخ لونه الإنساني المفقود.
صوت الذين لم تُسمع أصواتهم
أسلوب غاليانو في هذا العمل هو امتداد لرسالته الأدبية الكبرى التي حملها في كتبه السابقة مثل ذاكرة النار والشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية.
يكتب هنا بلسان المسحوقين والمنسيين: العبيد الذين قاوموا بالصمت، النساء اللواتي حفظن الذاكرة بالأغاني، والفنانين الذين حلموا بالحرية وسط الخراب.
التاريخ عنده ليس قائمة ملوك وقادة، بل حكايات من أسفل الهرم، من حيث تبدأ الإنسانية الحقيقية.
جوهر الفكرة ...
الفكرة المركزية التي يقوم عليها الكتاب هي أن الزمن ليس حيادياً، وأن قياسه لا يكون بالساعات بل بالكرامة.
فالتاريخ الذي كتبه المنتصرون، كما يقول غاليانو، هو نصف الحقيقة فقط، أما النصف الآخر فيسكن في الصمت الجماعي لأولئك الذين لم يُسمح لهم بالكلام.
من هنا تتحول الكتابة إلى فعل مقاومةٍ ضد النسيان، والذاكرة إلى ساحةٍ لاستعادة العدالة.
لغة تُنقذ الإنسان من التشييء ...
لغة غاليانو، التي نقلها أسامة إسبر بمهارة واقتدار، تجمع بين البساطة والعُمق، وبين الشعر والتوثيق.
الترجمة العربية احتفظت بروح النص الأصلية وبموسيقاه الداخلية، فبدت الفقرات كأنها قصائد نثرية، أو صلوات مكتوبة على جدران التاريخ.
يقول غاليانو في أحد مقاطعه:
“كل إنسان يولد ومعه وعد، لكنّ العالم يربّيه على النسيان.”
وفي أخرى:
“من لا يملك ذاكرة، لا يملك مستقبلًا.”
قراءة في القيمة الفكرية والجمالية ...
يُعدّ «أبناء الزمن» ذروة نضج المشروع الفكري لغاليانو، إذ يدمج بين الأدب والفكر والتاريخ في بنية واحدة.
إنه ليس تأريخًا للأحداث بقدر ما هو تفكيك لمعنى الإنسان في التاريخ.
بهذا المعنى، يصبح الكتاب وثيقة أدبية وأخلاقية ضد ثقافة الاستلاب وضد اختزال الإنسان في أرقام ومعارك.
إنه دعوة للتأمل في معنى الوجود، وفي مسؤولية كل جيلٍ عن الزمن الذي يعيشه.
في الختام:
ليس غاليانو مؤرخًا يسرد ما كان، بل شاعرٌ يعيد كتابة ما يجب أن يُقال.
من خلال “أبناء الزمن”، يذكّرنا بأن الماضي لا يموت، وأن كل يومٍ جديد فرصةٌ لكتابة سطرٍ آخر في كتاب العدالة الإنسانية.
هكذا تتحول القراءة إلى مشاركة في صنع التاريخ، لا مجرد مشاهدته من بعيد.
“التاريخ البشري كتاب لم يُغلق بعد،
وما نكتبه اليوم سيقرؤه أبناؤنا غدًا…
في تقويمٍ آخر، على كوكبٍ أكثر عدلًا.”
– إدواردو غاليانو