
شيخ الرحالة العرب محمد بن ناصر العبودي

عبد الخالق الجوفي
أمد/ بينما كنت أتصفحُ عناوين الكتب في إحدى المكتبات استوقفتني مجموعة من المؤلفات التي تحكي قصص الرحالة سواء العالميين أو العرب... كانت الأسماءُ الكبيرةُ تزين أغلفة الكتب من ابن بطوطة إلى ماركو بولو، ومن ماجلان إلى كولومبوس، ولكن بين تلك الأسماء الشهيرة برز أمامي اسمٌ بدا مألوفاً ولكن قد لا يكون مشهوراً لدى العامة كغيرهِ رغم أنه يمثل كنزاً حقيقياً في أدب الرحلات العربي... كان ذلك هو محمد بن ناصر العبودي.
لم أستطع مقاومة فضولي فبدأت بتصفح بعض الكتب التي تحمل اسمه، واكتشفت عالماً من المغامرات.. التأملات، والاستكشافات التي تحمل روحاً مختلفة عن الرحالة التقليديين... وجدت أن العبودي ليس مجرد رحالة يجوب الأرض بل هو فيلسوف يتأمل الثقافات.. عالمٌ يدرسُ المجتمعات، ومؤلف يُترجم الروحَ البشرية من خلال سفره في أقطار الأرض.
رحلات المعرفة والإنسانية
محمد بن ناصر العبودي ليس فقط شيخاً في علمه الشرعي، ولكنه أيضاً شيخ في عالم الرحلات... ولد في مدينة بريدة بالمملكة العربية السعودية عام 1926، وعاش طفولة بسيطة لكنها غرست فيه حب الاطلاع والاستكشاف، وبدأ حياته كعالمٍ في اللغة والأدب والشريعة، ولكن رحلاته جعلته يتخطى حدود المعرفة التقليدية ليصل إلى فهمٍ أعمق للإنسانية.
ما يميز العبودي عن غيره من الرحالة هو شمولية اهتماماته؛ فهو لا يكتفي بتسجيل تفاصيل الرحلة مثل الطبيعة الجغرافية أو الأطعمة التقليدية بل يتعمق في تحليل العادات والتقاليد والثقافات... يكتب بأسلوب أدبي فلسفي يثير التساؤلات، ويفتح أفق القارئ على عوالم قد تكون مألوفة في ظاهرها لكنها غريبة عند الغوص في عمقها.
الرحلات وسيلة للتواصل الثقافي
في زمنٍ تزدادُ فيه العزلة الثقافية والانغلاق على الهويات المحلية كان العبودي صوتاً يدعو إلى التواصل والتفاهم بين الشعوب، ومن خلال رحلاته التي تجاوزت أكثر من 160 دولة أظهر لنا أن العالم ليس مجرد خارطة مقسمة إلى قارات ودول بل هو شبكة من العلاقات الإنسانية.
كان العبودي يركز على المسلمين في المناطق النائية والمجتمعات التي تعيش على أطراف الحضارة فسافر إلى أماكن لا يكاد يُعرفُ عنها الكثير.. مثل القرى الأفريقية النائية وجزر المحيط الهادئ حيث التقى مسلمين مغمورين وحكى عن حياتهم وأحوالهم... كانت كتاباته تُظهر العبودي كرجل يحمل رسالةً تتمثلُ في أن يعرف العالم الإسلامي بعضه البعض، وأن يوثق وجود المسلمين في تلك الزوايا النائية.
أدب الرحلات بأسلوب فريد
أسلوب العبودي في الكتابة يختلف عن كثير من الرحالة فلا يكتفي بسرد أحداث الرحلة بل يعرض تجربتهُ بعين الفيلسوف الذي يبحث عن المعاني خلف الظواهر، وعلى سبيل المثال في إحدى رحلاته إلى أفريقيا لم يكن يصف فقط مشاهد الحياة اليومية بل كان يتأمل في القيم التي تجمع البشر رغم اختلاف الظروف كالصبر والتعاون والكرم.
كتابه "ذكريات من أفريقيا" يُعتبر مثالاً رائعاً على هذا النهج فهو يمزج بين سرد تجاربه الشخصية، وتحليل العادات الاجتماعية، واستعراض الجوانب الثقافية للمجتمعات التي زارها بأسلوبه السلس والشيّق، فيأخذ القارئ في رحلة ذهنية قبل أن تكون جغرافية.
الرحالة الإنسان
ما يجعل العبودي مميزاً ليس فقط عدد الدول التي زارها أو الكتب التي ألّفها بل شخصيته الإنسانية العميقة، ففي كل مكان زارهُ كان يسعى لفهم البشر أكثر مما يسعى لاكتشاف الأماكن، وكان يحترم الاختلافات الثقافية، ويتعامل مع الناس بتواضعٍ يُبرز روح الإسلام الحقيقية.
كان العبودي يرى في الرحلة وسيلة للتعلم، وليس فقط مغامرة للمتعة لذلك نجده يوثق أدق التفاصيل من تقاليد الزواج في القرى الأفريقية إلى وصف كيفية تحضير الطعام في قرى جنوب شرق آسيا... كان يؤمنُ أن التفاصيلَ الصغيرةَ هي ما يعكس روح الثقافة، وهي ما يتيح لنا أن نفهم الآخر حقاً.
إرث أدبي وثقافي
إرثهُ لا يقتصرُ على كتبهِ التي تجاوزت المئة بل يشمل أيضاً تأثيرهُ على أدب الرحلات العربي حيثُ كان يُعيد إحياء هذا اللون الأدبي الذي كاد أن يندثر في العالم العربي بأسلوبه الفلسفي العميق، وقد أعطى أدب الرحلات بُعداً جديداً يجمع بين الأدب، الفلسفة، والبحث الاجتماعي.
أضف إلى ذلك أن عملهُ يُعد وثيقةً تاريخيةً للحضارات والثقافات التي قد تختفي في عصر العولمة، فمن خلال كتاباته نرى كيف كانت حياة الناس في أماكن لا نعرفها، وكيف كانت العادات والتقاليد قبل أن تطغى عليها الحداثة.
وأثناء التفكير في رحلاتِ العبودي قررتُ تخصيص وقتٍ للاطلاع على إرثه العظيم في شهر رمضان الذي سيكونُ فرصةً مثاليةً للغوص في عوالمه وفهم العالم من منظورهِ الأعمق الذي يقوم على الرحمة التفهم، والتعايش.
لذا خصصتُ في ذلك الشهر المبارك وقتاً كافياً للشروع في تأليف كتابٍ عنه وعن رحلاته الرائعة، وسيكون هذا الكتاب محاولة لإعادة تقديمهِ للأجيال الجديدة لتتعلم من تجربتهِ الفريدة، وكيف يمكن للرحلة أن تكون أداة للمعرفة، وسبيلاً للتواصل الإنساني، ورسالة سلامٍ للعالم.
إن محمد بن ناصر العبودي ليس فقط شيخ الرحالة بل هو أيضاً أستاذٌ في فهم الإنسان من خلال رحلاته وكتاباته، فقد ترك لنا إرثاً يُلهمنا أن نرى العالم ليس فقط بعيوننا بل بقلوبنا وعقولنا... إنهُ دليلٌ على أن الأدب مهما تغيرت العصورُ سيبقى وسيلة لفهم جوهر الإنسان.
وهنا أرى أن الفرصةَ مواتية لدعوةِ كلُ من يمتلكُ القدرة والإمكانات لإثراءِ هذا المشروعِ القادم بمعلوماتٍ قيمة، أو إصداراتٍ ذاتُ صلةٍ، أو حتى اقتراحَ دور نشر قد تتبنى نشره بعد اكتماله... كما أنني أوجه الدعوة لكل من لديهِ صور أو وثائق قد تسهم في تسليط الضوء على هذا الرحالة العظيم لإرسالها إلينا علّها تكون مفتاحاً لسبر أغوار سيرته واستكشاف رحلاته كما ينبغي لها أن تُعرف.