
الأسباب الخفية والتبريرات العلنية لغياب نتنياهو عن قمة شرم الشيخ

د . مهدي مبارك عبدالله
أمد/ لم يكن غياب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو عن قمة شرم الشيخ مجرد ترتيب بروتوكولي عابر بل حدث سياسي فاضح كشف حجم المأزق الذي يعيشه زعيم اليمين الإسرائيلي داخليًا وخارجيًا في آن واحد فالقمة التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأكثر من عشرين زعيمًا من المنطقة والعالم تحولت إلى مرآة عاكسة لعزلة إسرائيل المتزايدة وإلى اختبار جديد لرئيس وزراءٍ غارق في أزماته القضائية والائتلافية حيث لم يعد قادرًا على اتخاذ قرار بسيط دون حساب ثمنه على توازن حكومته الهشة
وفقًا لمصادر إسرائيلية رفيعة في أجهزة الاستخبارات والسياسة أن نتنياهو لم يكن مدعوًا أصلاً إلى للمؤتمر وأن القاهرة استثنته بدايةً بسبب تصريحاته المتكررة التي رأت فيها القيادة المصرية خروجًا عن الأعراف الدبلوماسية ومسًّا بدور مصر الإقليمي والضغط الأمريكي المباشر الذي مارسه ترامب شخصيًا على الرئيس عبد الفتاح السيسي وحده هو ما أعاد إدخال تل أبيب إلى المشهد عبر الباب الخلفي ومع ذلك فإن الدعوة المتأخرة لم تمحُ الإهانة الأولى بل زادت من حرج نتنياهو الذي وجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر إما الحضور في موقع التابع أو الغياب بما يعنيه من اعتراف بالعزل والعزلة
في ذات السياق حاول الإعلام العبري كعادته أن يعيد صياغة القصة لخدمة سيده حيث بدأ المقرّبون من مكتب نتنياهو كيعقوب باردوغو بالتقليل من أهمية القمة واعتبارها صراع إقليمي قوى لا شأن لإسرائيل به أما القناة 14 الناطقة شبه الرسمية باسم الحكومة فقد سعت لتغيير الصورة كاملة حين قالت انه إذا شارك نتنياهو في القمة تكون تاريخية وإن غاب عنها فهي هامشية لكنه خلف هذه التبريرات المتهافتة كان القرار قد اتُّخذ لن يذهب نتنياهو إلى شرم الشيخ
الذرائع المعلنة للغياب تنوعت بين الأعياد الدينية ومخاوف الطيران وتهديدات أردوغان إلا أن السبب الحقيقي كان في مكان آخر تمامًا لان نتنياهو الذي يقود حكومة تجمع أكثر التيارات تطرفًا في تاريخ إسرائيل يخشى من أي خطوة قد تفسَّر كميلٍ نحو الاعتدال أو الانفتاح على العالم العربي وان اليمين الديني القومي ممثلً ببن غفير وسموتريتش بات يملك القدرة على تفجير الائتلاف في أي لحظة والرجل الذي وصفه أحد وزرائه سابقًا بأنه كذاب ابن كذاب يعرف أن شرعيته داخل هذا المعسكر قائمة فقط على خوفه من خسارتهم لذا فضل الغياب على أن يدفع ثمن الحضور سياسيًا داخل تل أبيب
هذه الحسابات الصغيرة والمتكررة هي التي عطلت في السابق صفقة الأسرى وأفشلت كل مبادرات اليوم التالي في غزة وهي نفسها ايضا التي جمدت مسار التطبيع مع السعودية رغم كل ما قيل عن نضج الظروف فالمشكلة لا تكمن في الرياض أو القاهرة أو حتى واشنطن بل في زعيم يقدم بقائه الشخصي على أي مصلحة استراتيجية لدولته ما جعل إسرائيل اليوم تدفع ثمن حكومة يمين فاشي لا يمتلك رئيسها رؤية سوى البقاء في الحكم حتى لو كان الثمن تهميشها من أي ترتيبات إقليمية كبرى
إلى جانب المأزق السياسي نجد ثمة عامل شخصي اخر لا يقل تأثيرًا يتعلق بالحالة الصحية والنفسية لنتنياهو فبحسب اعترافاته العلنية وشهادات محاميه أمام المحكمة انه رجل في الخامسة والسبعين يعاني من أوجاع مزمنة وأمراض متعددة وقد كتب المحلل السياسي روغل ألفر كتب في صحيفة هآرتس أن الإسرائيليين تعرفوا أخيرًا على حقيقة قائدهم رجل مريض ومتعب ولا يمكن التنبؤ بقدرته على إدارة دولة في لحظة انهيار شامل وحين تُضاف هذه الهشاشة الشخصية إلى الضغط القضائي والسياسي تصبح قراراته خاضعة أكثر للخوف والتردد لا للحساب العقلاني
أما عن تبرير الغياب بذريعة التهديدات التركية فليس سوى ستار إعلامي مضحك فالعلاقة بين أنقرة وتل أبيب رغم خطابات التحدي المتبادلة هي علاقة إدارة مصالح لا علاقة صدام حقيقي ومن يتابع خريطة التنسيق الاقتصادي والاستخباراتي بين الطرفين يدرك أن ما يجري هو تبادل أدوار لا مواجهة بين خصوم وبالتالي فإن تهديدات أردوغان لا تفسر شيئًا بقدر ما تكشف محاولة إسرائيلية للهرب من مواجهة الأسباب الحقيقية للغياب
النتيجة أن نتنياهو اختار العزلة على الإهانة والصمت على الظهور والهروب إلى الداخل على مواجهة الخارج فغيابه عن قمة شرم الشيخ ليس حادثة عادية بل مرآة عاكسة لوضع إسرائيلي مأزوم تنحسر فيه هيبة الدولة التي كانت تقدم نفسها لعقود كقوة لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات إقليمية لكنه اليوم يبدو أن زمن المبادرة قد انتهى وأن إسرائيل تعيش مرحلة الدفاع السياسي فيما قائدها يتشبث بكرسي الحكم وسط بحر متلاطم الامواج من الأزمات التي صنعها بيديه
في النهاية لا يمكن قراءة تغيب نتنياهو عن قمة شرم الشيخ بانه موقفًا عابرًا أو اختيارًا تكتيكيًا بل إشارة واضحة إلى تراجع مكانة إسرائيل الإقليمية وانكشاف زعيمها أمام حلفائه قبل خصومه وهو نتاج شبكةٍ متشابكةٍ من الضغوط الداخلية والتوترات الشخصية والارتباك الدبلوماسي فالرجل الذي اعتاد أن يبتزّ الجميع ويقود المشهد من موقع الفوقية وهو يمسك بكل الخيوط بات اليوم أسيرها يتهرّب من المنصات التي تكشف ضعفه ويختبئ خلف جدران حكومته المتصدعة مع التأكيد بان غيابه ليس قرارًا دبلوماسيًا بل إعلان عجزٍ سياسيٍ عن مواجهة الحقيقة حيث لم تعد إسرائيل لاعبًا مقررًا كما كانت ونتنياهو لم يعد قادرًا على إخفاء تصدع صورته كقائد لا يُقهر وما بين الأسباب الخفية والتبريرات العلنية يظهر جوهر الأزمة عاريًا وخيار الصمت في عدم الحضور اعترافًا بالعجز مع زعيم يعيش على أنقاض شرعيته ودولة تدار بمنطق الخوف لا بمنطق القوة